اتجاه الجمهور لمتابعة الشعر الشعبي وتوجه كثير من الشعراء الشباب لكتابة القصيدة الشعبية وانصرافهم بشكل شبه تام عن الشعر العربي الفصيح يُفسَّر من قِبل البعض على أنه انحدار في الذوق الأدبي واستبدال لما هو أدنى بالذي هو خير، وبدلاً من البحث عن الأسباب الحقيقية لذلك الانصراف نجد تركيزاً على الحديث عن أسباب تُلقي باللائمة على الشعر الشعبي والشعر الشعبي فقط، في مُقابل إغفال تام للعوامل الأخرى الواضحة التي أثرت بشكل كبير في ابتعاد المتلقي والشاعر على حد سواء عن الشعر الفصيح. كل من يُتاح له الاطلاع على النماذج الشعرية التي يفتحُ الطالب عينه حين يفتحها عليها من المرحلة الابتدائية وإلى تخرجه من الثانوية العامة، يُدرك بسهولة سبب نفور أبناء الجيل الجديد من الشعر الفصيح واتجاههم إلى الشعر الشعبي الذي يتأثرون به ويجدون سهولة في فهمة وإبداعه، فكثير من النصوص الشعرية التي يُفرض على الطالب حفظها تكون بعيدة عن مفهوم الأدب ويتم وضعها في المناهج إما لمناسبتها أو توافقها مع موضوع الدرس أو الوحدة المُقررة، أو لارتباطها بأحداث ومُناسبات مُعينة يفرض حضور ذكرها حضوراً لتلك القصائد. ولا يخفى أن المناسبات تطغى فيها لغة النظم الباردة على حرارة لغة الشعر وحيويتها حتى عند أبرع الشعراء وأكثرهم تمكُناً، وبالتالي يجد الطالب نفسه مُرغماً على حفظ تلك المنظومات بمرارة وصعوبة بالغة. إضافة إلى تلك الصعوبة التي يواجهها الشاب في بداية معرفته بالشعر الفصيح واضطراره لحفظ نصوص لا تستحق الحفظ عوضاً عن حفظ قصائد تُحقق له المُتعة وتزيد من رغبته في الحفظ، يواجه صعوبات أخرى تُشتته وترغمه على الانصراف عن الشعر الفصيح من بينها إلزامه -إلى جانب حفظ نماذج شعرية لا تتناسب مع عمره أو ميوله- بحفظ نصوص نثرية علاقتها بالمقررات والمناهج الأخرى أكبر من علاقتها بمنهج اللغة العربية أو الأدب، كالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة أو حفظ مقاطع من خُطب أو مقالات ليس هناك أدنى فائدة من حفظها..! وأعتقد أن الإنصاف يقتضي الإشارة إلى أن الأستاذ الدكتور عبدالله الفيفي -الذي يُعد ألد أعداء الشعر الشعبي وصاحب الآراء المُتطرفة ضده- أحد أجمل وأجرأ الأقلام النقدية التي لامست الواقع السيئ لمناهج الأدب واللغة العربية، والدور المهم الذي لعبته في صرف الشباب عن الفصيح باتجاه الشعر الشعبي، وذلك في سلسلة مقالات كتبها قبل ما يُقارب تسع سنوات تحت عنوان: (مناهجنا المدرسية: تكريس العقلية التقليدية ورثاثة الذوق الأدبي) وسعى من خلالها لتشخيص الداء ووصف الدواء، ومع ذلك ظلت معظم النصوص التي انتقدها وطالب بإزالتها من منهج الأدب للمرحلة الثانوية موجودة إلى الآن، وأُضيف إليها كثير من النصوص المُشابهة في المناهج المطورة لمرحلتي الابتدائية والمتوسطة، وأظن بأن الشعر الفصيح لن يتمكن من العودة لمكانته اللائقة ولن يستطيع زحزحة الشعر الشعبي إلا بإعادة النظر في اختيار النصوص الشعرية التي تُدرَّس وتُعطي الناشئ في مرحلة تكوينه الأدبي انطباعاً أولياً عن الشعر الفصيح.