من شذرات المفاهيم التي ترصعت بها سيرته العطرة، حرصه على العلم وتنوعه وهو ما تتفاضل به الشعوب، وبه تعد المسافات بين تقدمها وتأخرها، وقد نبّه صلى الله عليه وآله أمته إلى انتهاج طريق العلمين؛ الدنيوي والأخروي.. لم يولد على ظهر المعمورة كمحمد صلى الله عليه وآله، ليس ذلك انقياداً لاتباع المنقول، وإنما هو أيضًا ما شهد به واقع البشرية من بعثته صلى الله عليه وآله، فقد غير برسالة الإسلام مجرى الحياة، وأصبحت الأرض بأجمعها منذ بعثته صلى الله عليه وآله لا يموت عاقل فيها إلا وقد سمع به وعلم عنه شيئًا من سيرته، سواء كان ذلك المسموع صحيحًا أو مشوّهًا! وهذا يعني أن العالم في كل عصر ومصر يتعرض لدراسة سيرته صلى الله عليه وآله، بين مستقل ومستكثر، وبين متبع ومعاند، ومن بين هؤلاء يبرز المتأمل المسلم المتأسي ليلتقط من سيرة نبيه ما يكون له نبراسًا لاتباعه، وزادًا لآخرته. ولا يعجز الناظر المنصف عن تصور هذه الشخصية المصطفاة ببعض النظرات العابرة في آيات التنزيل ليرى من خلالها الصورة الصحيحة بكل أبعادها بحيث لا يعجز بعد ذلك عن تفسير أي مبهم يرد في سيرته التي نقلها إلينا الكتّاب والمؤرخون، وأصحاب السير، فحين يؤسس المسلم في ذهنه مفاهيم السيرة بإيجابية النظر اليقين يهيئه ذلك لبناء جزئيات الحياة على تلك المفاهيم الأساسية. ومن ذلك بضرب المثال (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وهي آية تكشف عن تكوين هذا النبي المختار وتميزه برحمته عن غيره حتى بلغ درجة الاصطفاء وأهلية حمل الرسالة التي بنيت على الرحمة، وليست الرحمة "معادلة رياضية" أو "بحثًا فيزيائيًا" أو "جملة فلسفية" إذا صحت مقدماتها صحت نتائجها، وإنما الرحمة شيء يضعه الله في قلوب من يشاء من خلقه. وفي سيرته صلى الله عليه وآله حين رآه أعرابي يقبل ابن ابنته فقال: «تقبلون الصبيان؟ فما نقبلهم، فقال النبي صلى الله عليه وآله: «أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة» فطبيعته البشرية صلى الله عليه وآله كانت في غاية صفائها البشري، واتسعت نفسه المصطفاة للأفراح والأحزان، ولم يغلب هذا على هذا لأنه كان القدوة للإنسانية. ومن شذرات المفاهيم التي ترصعت بها سيرته العطرة، حرصه على العلم وتنوعه وهو ما تتفاضل به الشعوب، وبه تعد المسافات بين تقدمها وتأخرها، وقد نبه صلى الله عليه وآله أمته إلى انتهاج طريق العلمين؛ الدنيوي والأخروي، ووكل إليهم علوم دنياهم فقال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» وأمور دنياكم لا يقتصر على تأبير النخلة، وإنما يشمل كل علوم الدنيا التي بها نتوصل إلى تسهيل وتطوير معيشتنا بما يتوافق مع عصرنا. ومن شذرات مفاهيم السيرة، تعامله صلى الله عليه وآله مع من أظهروا له العداوة وحاربوه ومع من تحالفوا معه وسالموه، فكانت قواعد عامة في السيرة النبوية تتقيد بضوابط حكيمة متلائمة مع أي سياسة تتولى معيشة الإنسان، فقد أسس صلى الله عليه وآله قواعد السلام بمكاتباته ومراسلاته، وأسس للتعاون والحفاظ على الإنسان بأفعاله، وأدل مثال على ذلك حين بعث صفوة صحبه للهجرة إلى أرض ليست بأرضهم وتحت حكم ملك ليس على دينهم، فهاجروا إلى أرض الحبشة ومكثوا ما شاء الله أن يمكثوا، ولم ينقل التاريخ عنهم عيبًا ولا أذية. ومن مفاهيم السيرة، تلك الخصال الحميدة من السماحة والرفق والحلم والصبر التي زرعها الله فيه، وأفهمه أنه إنما أُرسِل وأنزل عليه القرآن لتحصيل حياة مطمئنة خالية من التعاسة والشقاء (طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) فلا يكون الشقاء وضنك المعيشة يومًا من الأيام مطلبًا دينيًا إلا عند من قصرت مفاهيمهم عن فهم سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله. ومن شذراتها؛ الحرص على السكينة العامة، والحفاظ على كينونة الجماعة، وذم الفرقة والتعصب والتحزب، والأمر بالانصياع للنظام العام، وفي ذلك رغب وحث وكرر، صلى الله عليه وآله حتى ترك أمته على محجة بيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. هذا، والله من وراء القصد.