(وحيدة زمانها، المشار إليها في أوانها، حسنة المحاضرة، طاهرة الثوبِ، كريمة النسب) أشهر أميرات العالم، سليلة سلاطين بني أُمية رائدة الشعر العربي والحكمة والبلاغة والجمال، وثقت قصائدها حقبة زمنية لعصر ذهبي أضاءت به الأندلس العظيمة ظلام أوروبا وأوقدت مشاعل التنوير في كل أنحاء العالم علماً وفناً. شاعرة مثيرة للجدل قديماً وحديثاً واختلف عليها المؤرخون الكثير عارضوها (وقلةً أيدُوها)، لكونها أول أميرة وسيدة تفتح مجلساً أدبياً تعقد فيه المساجلات الشعرية بحضور عمالقة الشعر الأندلسي. فأثرث على الأدب الغربي وكتب عنها المستشرقون الكثير ومنهم الكاتبة البريطانية لي كوين Leigh Cuen في مقال بعنوان (شاعرة الحب) حيث قالت عنها (أثرت في الشعر الأوروبي خلال العصور الوسطى حيث سبقته في القرن الحادي عشر خاصة فيما يعرف بالحب الرفيع والذي شاع في بلاط الملوك والأمراء في تلك الحقبة). وتشير الكاتبة (لي) كانت من أشهر البلاط الأندلسي وتجمع بين صفات الشاعرة والأميرة والفنانة (انتهى) فمن هي هذه الأميرة التي حبست أنفاس الملوك والأمراء والنبلاء في البلاط الأندلسي من عرب وعجم؟ تلك هي ولادة إحدى أميرات بني أُمية وابنة الخليفة المستكفي بالله وشتان ما بين ولادة واسم والدها والذي رفعته من الأرض للسماء ومن فرش الدسائس والفتن إلى عرش الخلود في التاريخ. أمها جارية إسبانية اسمها سُكرى وقد ورثت منها بشرتها الناصعة البياض وشعرها الأشقر وعينيها الزرقاوين. أميرة علت شهرتها وسلبت لُب الشعراء والأمراء خاصة صاحب الوزارتين الوزير ابن زيدون. كان يحضر مجلس ولادة في قرطبة أعيان الأندلس والعالم من علماء ونبلاء ومملوكين وأدباء وساسة.. يهود ومسيحيين رجالاً ونساءً فالكل يحرص على حضور مجلسها ليس لجمالها فقط بل لعلو ثقافتها ومكانتها. اختلف الكل عليها لكنها كانت بلا شك سابقة عصرها لثقافتها وفصاحتها، كانت كالفرس العربية الجامحة، شاعرة شديدة البلاغة، حتى إنها تعد من الأكثر تأثيراً في بروز الحركة الشعرية النسائية. فشاعرات العرب على مر العصور قليل رغم كثرتهن، فمن الجاهلية إلى صدر الإسلام وماتلاها من عصور برزت شاعرات أثرين الحركة الثقافية من ذاك الوقت حتى وقتنا الراهن، فالمرأة مرهفة الإحساس قادرة على التعبير بمكنوناتها وبث مشاعرها حال امتلاكها الموهبة الفطرية التي تؤهلها البوح بمكنونات نفسها المتعددة خاصة العاطفية منها. (والحق كانت ولادة نموذجا ورمزا فاخرا لعلامة الأدب النسائي ذي الطراز السلطاني (المُلهِم) ليس لي فقط بل لمن هم في عصرها ولمن أتى بعدها فكُتِب عنها في التاريخ والسير والتراث والأدب). شخصية ولادة والتي مع الأسف حُلِلَت من شعرها وليس مما نقل عنها وليت ما ينقل عنها صحيح بل هو من قريناتها أو من جواري أثارت غيرتهن بكمالها ومن شعراء لم ينالوا حظوة اهتمامها أو من متطرف في الدين ينعتها بالفجور لأنها (أول من كشفت وجهها)في ذاك العصر، فالنقل والتحليل من بيت شعر نُسِب لها ليس منصفاً وغير كافٍ مما جعل هذه المُلهِمة متناقضة في شخصيتها وسلوكها. برزت ولادة لأنها صاحبة الجلالة فهي بنت الخليفة وأميرة ذاك العصر المعلاة في قدرها. تأثر الكل بولادة حتى إن والدها الخليفة ينادى بوالد ولادة وكذلك الشاعرات أصبحن ينسبن أنفسهن لها ومنهن أشهر الشاعرات في عصرها.. مهجة القرطبية والتي سمت نفسها (مهجة صاحبة ولادة) طمعاً بالشهرة والانتساب لها، حتى قيل إن قصص ألف ليلة وليلة استوحت قصصها وأحداثها من حياتها. لقد تركت ولادة بصمة في مسيرة الشعر النسوي -إذا جاز التعبير- فقد ذاع صيتها وكانت مُلهِمة مؤثرة بجمال شعرها وعذوبته وسلاسة ألفاظه وصدق كلماته، فكانت مرهفة الإحساس كثيرة المخالطة للأدباء وعندما حضر ابن زيدون مجلسها طمع (فقط) في اهتمامها: يا فتيتَ المسك يا شمسَ الضحى يا قضيب البان يا ريم الفلا إن يكن لي أمل غير الرضا منكَ لا بُلغتُ ذاك الأملا فنال أمله وأولعت فيه ولادة حباً وعشقاً ولكن دوام الحال من المحال فلم تجد فارسها وفياً لهذا الحب، إذ أحب جاريتها (عُتبة) ليثور كبرياؤها قاطعاً كل حبال الود ولتضع قلبها تحت قدميها ينزف عشقاً وشوقاً لحبيب خائن وعقل يأبى عليها العودة لتظل بعدها عاشقة مكسورة فنزفت قصيدتها الشهيرة: لوكنتَ تُنصِفُ في الهوى ما بيننا لم تَهْوَ جاريتي ولم تتخيَّرِ وتركتَ غُصْناً مثمراً بجمالِهِ وجنحْتَ للغصن الذي لم يثمِرِ ولقد عَلِمْتَ بأنَنيِ بدرُ السَّمَا لكن دُهِيْتَ -لشقوتي- بالمشْتَرِي بعد هذا الموقف تعكر صفو العلاقة الجميلة وسُرّ العواذل بقطع حبال الود بين ولادة وابن زيدون والذي حاول أن يعتذر لها ويستدر عطفها فأهداها نونيته الشهيرة والتي مطلعها: أضحى التنائي بديلاً عن تدانينا وَنَابَ عَنْ طيبِ لُقْيانَا تجافينَا ولَم تقبل ولادة اعتذاره بل انتقمت منه واستبدلته بحب آخر الوزير أبو عامر بن عبدوس الفاحش الثراء، ولفق لها كارهوها كذباً وافتراءً بيتين إباحيين وزعموا إنها كتبته على طرفي ثوبها: أنا والله أصلح للمعالي وأمشي مشيتي وأتيه تيهاً فولادة بنت المستكفي مشهورة بالصيانة والعفاف وقيل إن هذا البيت مدسوس عليها لكونها أميرة ذائعة الصيت وقد نال منها فيما بينها وبين من أحبته ابن زيدون حين قيل على لسانها: (وأمكن عاشقي من صحن خدي وأعطي قبلتي من يشتهيها)! فمن المستحيل أن تقول ذلك سيدة عفيفة بمقامها الرفيع وأشرف بيوت الخلافة هذا الكلام الوضيع! وقد ردت على هذين البيتين اللذين نُسِبَا لها ودافعت عن شرفها: إني وإن نظر الأنام لبهجتي كظباء مكة صيدهن حرام يُحسبن من لين الكلام زوانيا ويصدهن عن الخنا الإسلام لقد أبدعت ولادة في حبها لابن زيدون وغيرتها عليه حين قالت: أغار عليك من نفسي ومني ومنك ومن زمانك والمكان ولو أني خبأتك في عيوني إلى يوم القيامة ما كفاني روعة في الشعر والمعنى والموقف فأي حب بعد هذا الحب يُحكى ويروى لأميرة أحبت ولم تجد حبيبها وفياً ومخلصاً لهذا الحب ونكث عهود الوفاء!؟ِ ذاع صيت ولادة وارتباطها العاطفي بالوزير ابن زيدون فلا يذكر أحدهما إلا ويذكر الآخر كصنوان لا يمكن التفريق بينهما عكس ما كان واقعا حيث قصة حبهما لم تكتمل بل كانت مليئة بالأحداث التي نغصت على الحبيبين صفاء حبهما وكدرت عليهما قصة حب كانت من الممكن أن تكون مثالا يضرب في العاطفة الجياشة المتدفقة دون حدود. الحديث عن ولادة لا يكاد ينتهي فسجلها الأدبي والتاريخي مليء بالأحداث والقصائد والمواقف الجميلة والمؤلمة وحتى الملفقة من جواريها اللواتي كُن يغرن منها ومن شعراء تجاهلت حبهم وكسرت قلوبهم. وتخليداً لحب ولادة وابن زيدون وضع لها نُصب تذكاري في ساحة مارتيليه في قرطبة وكتب في لوح رخامي ولادة وابن زيدون تخليداً لهما وسمي (نُصب الحُب) لنحات عبقري لكفان لا يلتقيان ويخيل لمن يراهما أن حولهما لهفة وشوق وارتجاف وكُتِبَ قصيدتهما الشهيرة (أغار عليك) و(يامن غدوت) تلك الولادة التي توفيت وعمرها ثمانون عاماً ولَم تتزوج ولأنها الأميرة المفرطة في الجمال والذكاء والدهاء فقد كانت كالشمس المشرقة التي سطعت على بلاد المشرق والمغرب..، إنها كل نساء العالم في امرأة واحدة فتوجت على عرش الشُهره حين قال عنها ابن زيدون رائعته: يا مَن غَدَوتُ بِهِ في الناسِ مُشتَهِراً قَلبي عَلَيكَ يُقاسي الهَمَّ وَالفِكَرا إِن غِبتَ لَم أَلقَ إِنساناً يُؤَنِّسُني وَإِن حَضَرتَ فَكُلُّ الناسِ قَد حَضَرا تلك هي ولادة.. التي كسرها الحب وأنصفها الشعر والأدب. أميرة تُقام لها العروش كالشهاب الساطع في تاريخ بلادها، تربعت على قمم العظمة وعروش السلطنة ولا تزال حتى الآن ولادة بنت المستكفي مثيرة للجدل ومُلهِمةُ الشرق والغرب. ريما الرويسان Your browser does not support the video tag.