يسلط ابن بسام في ذخيرته الأندلسية الشهيرة الضوء على ولادة بنت المستكفي.. تلك التي أشعلت أخيلة الأندلسيين والعرب - ومازالت - بشعرها الغزلي الصارخ بابن زيدون.. وقد شغفها حباً بين حياته في قرطبة وأشبيلية سياسياً، وسجيناً.. يقول (كنتُ في أيام الشباب وغمرة التصابي هائماً بغادة تسمى ولادة فلما قدم اللقاء وساعد القضاء كتبتْ إليَّ - أي ولادة -: ترقبْ إذا جنَّ الظلام زيارتي فإني رأيتُ الليل أكتم للسر وبي منك ما لو كان بالبدر ما بدا وبالشمس لم تطلع وبالنجم لم يسر) يبدو ان المؤرخ الأندلسي أراد توثيق هذه العلاقة الغرامية التي تصرّمت لأسباب توقف عندها النقاد .. ومنهم الدكتورة بنت الشاطئ التي ترى ان ولادة لم يكن في قلبها متسع للحب، وقد عاشت الشاعرة حياة متقلبة الأطوار والمعاناة في حياتها الاجتماعية والسياسية. وبالتالي فإن أبياتها القادمة في لوم ابن زيدون لم تكن سوى استعراض مثير لمفاتنها الجسدية، ذات القد القضيبي والردف الكثيبي والخد الوردي!! لو كنتَ تنصف في الهوى ما بيننا لم تهوَ جاريتي ولم تتخير وتركت غصناً مثمراً بجماله وجنحت للغصن الذي لم يثمر ولقد علمت بأنني بدر السما لكن دهيت لشقوتي بالمشتري ?? وبعد فراره من السجن في قرطبة ليلتحق ببني العباد في أشبيلية.. وقف في ضاحية الزهراء.. تلك الضاحية الجميلة المنبسطة من ضواحي قرطبة.. إذ اشتعل قلبه بلاعج الشوق إلى فاتنته.. مستذكراً ومودعاً: إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا والأفق طلْق ومرأى الأرض قد راقا وللنسيم اعتلال في أصائله كأنما رقَّ فاعتل إشفاقا والروض عن مائه الفضي مبتسمٌ كما شققت عن اللبَّات أطواقا كأن أعينه إذ عاينت أرقي بكت لما بي فجال الدمع رقراقا لما وقفت على منازل الشاعر - قبل أسابيع - في تلك الروضة الغناء أحسست كم كان له وللأندلسيين غيره من مسارح حب ومضارب عشق .. أين منها شبابنا الذين يتبادلون الرسائل الغرامية المكشوفة عبر إصدارات SMS في الفضائيات المنفلتة من أي رقيب!! ورحت أتساءل وأنا اقرأ «توقيعاتهم» التي لا يخلو بعضها من ألق الشعر.. هل هم بدع بين آبائهم وأجدادهم؟! ?? وتذكرت ما قرأته قبل سنوات في كتاب «الموشى» للوشاء.. ذاك الذي حوّل صنعته أو صنعة والده في الحياكة والنسيج، إلى التقاط نسائج جمالية أخرى، كان يكتب فوقها المتغازلون في العصر العباسي أبيات الشعر الحارة.. ويطرزها شباب ذلك الزمان على ملابسهم، أو في عصائب تلف رؤوس الفتيات الجميلات.. ما أروع تلك الأزياء.. لقد كانت أصيلة لا مستعارة، كما يرتدي اليوم شبابنا وشاباتنا موقعة بعبارات أجنبية في منتهى السخف! نعم.. إن الحب والتعبير عنه شغلا الشعراء والمتذوقين منذ قديم الزمان.. لم يسلم من أقداره الوجيه ولا الحقير.. الكبير العالي المنزلة أو المتواضع الشأن.. لكن لماذا تتفجر قلوب العشاق دفعة واحدة، فتتطاير براكين مشاعرهم الحارة بكل هذه الفوضى المنفلتة من أي قيد.. هل بسبب حرمانهم من التعبير هو الذي يجعل شبابنا اليوم يتفنون في صياغة عبارات غزلية خادشة للحياء، أصبحنا نشاهدها في رسائلهم الاليكترونية.. ومع ذلك أحسب ان ولادة بنت المستكفي تلك الأميرة الأندلسية المترفة، كانت أجرأ على الآداب العامة من غزليي SMS في عصرنا العولمي المنفلت وهي تقول مزهوة بجمالها الآخاذ: أنا والله أصلح للمعالي وأمشي مشيتي وأتيه تيها أمكِّن عاشقي من «صحن» خدي وأعطي قبلتي من يشتهيها يا ترى ألم تسبق نانسي عجرم وأمل حجازي وأليسا.. والبقية الباقية من جواري الفضائيات؟!..