أحدثت فتوى الشيخ المغامسي بإباحة الموسيقى ردود أفعال واسعة من المتشددين، ومن العوام الذين لديهم قناعة أن الإسلام هو أقوال متشددينا من طلبة العلم الشرعي؛ وليس ثمة منطقة وسطى بين مشايخنا ومخالفيهم، ولا بين الخطأ والصواب، رغم أن قضية الموسيقى والغناء من المسائل التي اختلف عليها الفقهاء منذ زمن بعيد وليست من النوازل المستجدة التي اجتهد في حكمها الفقهي المغامسي؛ وما زالوا مختلفين في حكمها حتى اللحظة. هناك من الأئمة الكبار في التاريخ الفقهي -كما هو معروف- من قالوا بإباحة الموسيقى، وأصروا على ذلك، وأهمهم على الإطلاق الإمام «ابن حزم» رحمه الله، الذي لا يكبوا له جواد ولا تهزم له راية في قضايا الاختلافات الفقهية التي يحكمها سياق منطقي اجتهادي مؤصل. والقضية مازالت مختلف فيها اختلافا فقهيا معتبرا؛ لذلك لا يصح أن يُحمل الناس على رأي مختلف فيه حملا، لأنك بذلك تجعل من اجتهادك حقيقة مطلقة لا يشوبها شائبة، بينما هي مسألة حكمها يدور بين الحلال والحرام وهي منذ قرون مثار أخذ ورد؛ ولا يمكن في هذا العصر الذي أصبحت المعلومة، أية معلومة، في متناول الجميع، وليست كما كانت في العصور العامية حكرا على فئة معينة. والاختلاف بين المسلمين رحمة لهم، وحملهم على اجتهاد واحد، ضرب من ضروب (الاستبداد الفكري)؛ لك أن تقتنع بمن تشاء وما تشاء من آراء، ولكن لا يحق لك لا شرعا ولا عقلا أن تحملني على اختياراتك الفقهية بالقوة، في زمن أصبحت (تعددية) الآراء والاجتهادات، حقا من حقوق البشر المبدئية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أننا عندما نُعلم أبناءنا في بدايات التعليم نغرس في أذهانهم أن ثمة رأي واحد لكل مسألة، وهو الراجح، ومؤداه ما يقوله فقهاؤنا (فقط)، ولا عبرة بالآراء الأخرى؛ لذلك يجب أن نتوقع منهم أن يتحول ذلك التوجه إلى منهج آحادي في شؤونهم الدينية وكذلك الحياتية، وحينما يختلفون مع من يقول بخلاف ما يقولون، فإما أنهم يكفروه، أو يصفونه بالضلال، أو يفسقونه وإذا تسامحوا معه وصفوه بالجهل. وهذا هو (المنهج الأحادي) الذي لا يتقبل الاختلاف، وهو الذي تطور فيما بعد وأفرز التكفير فالإرهاب. والمنهج الأحادي هو الذي يضع اجتهاداته وترجيحاته في مستوى الحقيقة المطلقة، ومثل هذا المنهج يتبعه كثير من كبار علمائنا للأسف، رغم أنه يختلف أول ما يختلف مع مقولة الإمام الشافعي، التي يكرهها كثير من أُحاديي المنهج، وفحواها (قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب)، هذه المقولة الواضحة الصريحة، تنسف رأي من يقول (بالوصاية) ويرفض (التعددية)، من المتشددين المتزمتين من علمائنا، فإذا كان الإمام الشافعي صاحب المذهب الفقهي الحي حتى اليوم وأول من أسس علم أصول الفقه، يقول أنني لا أمتلك الحقيقة المطلقة، ولكنني أقول بالحقيقة النسبية، فلا يأتِ أحد متشددينا، ويرفع عقيرته بقوله (الوصاية معتبرة) في الإسلام (التعددية) بدعة؛ وكأنه بهذه المقولة الفارغة يرد على الإمام الشافعي بلا أي قدر من الحياء، إلى اللقاء