أن تعيش حياة ملؤها الهوس بالمؤامرة والدخلاء والعملاء وكأنك عامل استخبارات، لا تفكر إلا في الخيانة والدسيسة والمخطط المشؤوم، وتظل تمشي على الكثبان تتصور أن كل العالم بأفراده وأحواله ما اجتمعموا إلا ليفكروا كيف يلتهمونك، ويقصونك من خريطة الحياة، وأن كل شذاذ الآفاق والأبالسة جمعتهم مشاهدتك والتربص لافتراسك، ثم تصاب بهذا الهلع الذي يجعلك تشك في النفس الذي تتنفسه، ويجتاح مخيلتك ويغرو أفكارك الظلام، ولا شيء سواه، ثم تصدح فوق منابرك ومن على منصاتك وأمام حشودك وجماهيرك صارخًا وقائلًا ومنذرًا بين يدي عقاب شديد يلم بنا جميعًا، وتلقي التهم جزافًا دون تحديد فئة ودون تقييد لكلامك، ثم توسع دائرة المؤامرة حتى تتجاوز حدود الفضاء، حتمًا سيكون خطابك دائمًا خطاب معارك وحشد وتهييج للنفوس، وحتمًا سيذوب كل شعور ورغبة في الحياة ما دام أفرادها متلبسين بخيانتك والتآمر عليك. هب أننا صدقنا ذاك الطرح المشؤوم الذي لا يعرف لغة وطريقًا للحياة والتعامل إلا بحذر وتربص يكاد يمزق كل من يظهر لنا في الوجود، وسادت تلك الثقافة التي يتزعمها ذاك المهووس بتلك الأفكار، هل حقًا سنحب البشرية أو نقبل التعايش معها في زمنٍ كعصرنا الذي تتقارب الشعوب فيه بقوة معا نتاج سهولة التنقل والتحرك والتشارك في وقتنا؟ وكيف هي مشاعر المتلقي الناشئ في أوساطنا وهو يعيش في هذا الجو المشتعل والمحتقن تجاه البشرية؟ كيف سيكون سلوكنا مع كل مختلف عنا؟ كم سندمر ونقصي ونقاتل كل من ليس من لوننا وعاداتنا وطبيعة تكويننا؟ إن البشرية ستخاف الاقتراب منا؛ لأننا حساسون ومشتعلون بإفراط تجاه كل تصرف مختلف عنا؛ لأنه حتمًا سيدق ناقوس الخطر والمؤامرة الذي نشأنا عليه.. إن من أعظم سنن الله الكونية ومقاصده من خلق الإنسان أن تذوب الفوارق أيًا كانت، وأن الهوس المبالغ فيه والتحذير من الإنسان المختلف الفوارق والطباع والسلوك رَفْضٌ لسنيّة التنوع والاختلاف. Your browser does not support the video tag.