على الضد من الخطابات الأحادية التي تزدحم بها ساحتنا العربية، والتي تتخذ من تصنيف الآخر سبيلاً الى نبذه وإقصائه وحتى تكفيره وقتله واستباحة آدميته، ثمة خطاب عقلاني يستلهم حضارتنا السمحاء في قبولها الآخر واحتضانها كل الأفكار والطوائف والمذاهب على قاعدة الحوار والاحترام المتبادل. يتجلى هذا الخطاب في أنقى صوره وأصفاها في كتاب «حروب الهويات الصغرى، في مكافحة التصنيفات الإقصائية»، المركز الثقافي العربي 2014، حيث عرض زياد الدريس لأكثر أسئلة الخطاب السياسي العربي إرباكاً، من سؤال الهوية الى سؤال الحزبية والتعصب والإصلاح، طارحاً على الدوام رؤية عقلانية متنورة أحوج ما تكون إليها الأمة العربية في هذه المرحلة الحرجة من تاريخها. تناول المؤلف السياق الثقافي لدلالات مفردة «الحزبية»، فرأى أن الحزبية في الأنظمة الديموقراطية هي وسيلة للتعايش والتعبير عن أطياف المجتمع، بينما تعني في الوطن العربي، إما التعصب لحزب أو تيار أيديولوجي، وإما الخوف من الأحزاب ومحاربتها بزعم عمالتها وخيانتها. والحل لا يكمن بالضرورة في فتح الأبواب للأحزاب، بل في فتح العقول النيرة لاستيعاب تنوع الآراء وإمكان رؤيتها على مائدة الأفكار، حتى على رغم عدم إمكان هضمها، ولذلك فالمكافحة النزيهة لمواجهة الحزبية الإقصائية هي ما يجب أن نبنيه في ثقافتنا. ينتقد المؤلف الركض خلف الهويات الصغرى التي تقزّم هوية المسلم واستبدال الاسم الشامل «الإسلام» باسم بشري أياً يكن هذا الاسم، «فالله عز وجلّ سمّانا مسلمين وسأحتفظ بالتسمية التي ارتضاها لي ربي». وعرض ل «الإخوان المسلمين» في مصر، فرأى أن هؤلاء فئة من المسلمين، ولا يحق لهم احتكار تمثيل الإسلام والمسلمين، وإن كان من حقّهم اعتبار تنظيمهم حزباً سياسياً يسترشد بالدين، فالإسلام أضخم من أن يحتكره بعض المسلمين. لكن ليس من المقبول استخدام ذريعة التكفير الديني أو ذريعة التخوين الوطني من أجل الاستعداء والتأليب وتصفية الخصوم، وعلى المثقف في هذه الحالة ألا يتوقف عن قول رأيه وكتابته، كي يبوء الذين يوظفون الدين والوطن لمنافعهم بالخسران. إذ يتناول المؤلف مسألة الإصلاح في الخليج، يرى أن التصنيفيين يلصقون تهمة «الإخونجية» أو الزندقة بأي إصلاح إسلامي أو ليبرالي ناقد للأداء الحكومي. وفي هذه الحال، لا بد من التحذير من الحزبيين الإقصائيين الذين يرمون التهم على الناس جزافاً، ويعمدون الى تجزئتهم بالقوة من خلال تصنيفهم، فهذه التهم للوطنيين والإصلاحيين والصادقين قد تؤجل تحقيق أهدافهم الإصلاحية، لكنها قد تعجل في تحقيق أهداف التخريبيين. وليس من المجدي اللجوء الى نظرية المؤامرة وتفسير الأحداث من خلالها، فالنكوص الى هذه النظرية نقيصة فكرية ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بضعف الثقافة وضعف الذمة، وربما كان سبيلاً للتهكم والسخرية. أما الإرهاب فليس فكراً في نظر المؤلف، بل هو طريقة في التفكير والحوار وفي التعامل مع الآخر، وهو ليس حكراً على فئة من دون أخرى أو ديانة من دون أخرى، وإذا أردنا القضاء عليه فيجب أن نقضي على أدواته المتمثلة في الإقصاء والتصنيف والاستعداء والتأليب والتفسير التآمري. في ذروة موقفه العقلاني الذي يخترق كتابه من بدايته الى نهايته، يذهب المؤلف الى أن الحياة صراع، وأقل الناس صراعاً فيها هم الأكثر إنسانية. وإذا كان لا بد لنا من القتال في هذه الحياة، فليكن «قتالاً» ضد الاقتتال ينأى بالنفس قطعاً عن البدء بقتال الآخرين وعن الانجرار معهم الى معارك هم يشتهونها. على هذا الأساس، يوصي المؤلف الكاتب بالاعتدال وعدم الاستجابة للذين يطالبونه بالتأييد المطلق والأعمى، فالمعتدل يجب أن ينشغل بإرضاء ربه ونفسه وعقله وضميره، يقول ويكتب ما يراه صواباً وما يؤمن بأنه الحق، سواء أرضى هذا أو أسخط ذاك. وهو باعتداله يحفظ سفينة المجتمع من الغرق. نرى أخيراً، أن الكتاب يستحق أن يُقرأ بإمعان، إذ في التأمل بمقولات مؤلفه وآرائه وأفكاره عِبَر ومغازٍ ودلالات كبرى في هذا الزمن العربي المترنّح على منعطفات خطيرة ومصيرية. * كاتب لبناني