مع دخول العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك يتسابق الكل في مضاعفة الجهد من أجل اغتنام هذه الليالي الشريفة التي فيها ليلة القدر والتي هي خير من ألف شهر، وفي هذه الليالي تبدأ صلاة القيام في ثلث الليل الأخير من الليل، ففي الليالي التي تسبقها كان المصلون ينتظمون خلف الإمام في صلاة التراويح ومن ثم يختمون صلاتهم بالشفع والوتر التي يقنت فيها الإمام، ولكن في ليالي العشر يتم في أول الليل أداء صلاة التراويح بعدد من التسليمات ومن ثم ينصرف المصلون إلى بيوتهم، ومن ثم يعودون إلى صلاة القيام التي تبدأ في الثلث الأخير من الليل، فيصلي المصلون خلف الإمام عدداً من التسليمات التي يختمها بركعتي الشفع ومن ثم ركعة الوتر التي يقنت فيها، وبالأمس القريب كان المصلون يطيبون المساجد بالبخور، وعند صلاة القيام وفي عادة حميدة يتم إحضار القهوة من قبل أحد المصلين التي تقدم للمصلين مع «قدوع» التمر ومن ثم يقدم الشاي في فترة الاستراحة بعد أداء عدد من التسليمات حيث يقوم الإمام بقراءة موعظة على أسماع المصلين، بينما يقوم الصبية بصب القهوة للمصلين وكذلك الشاي، إضافةً إلى تقديم الماء البارد لمن يريد، وقد يتم خلال هذه الاستراحة تأدية المؤذن أذان الفجر الأول، وبعد هذه الاستراحة القصيرة التي ربما لا تتعدى العشر دقائق يتم المصلون صلاتهم. وفي أيامنا هذه فقد اندثرت هذه العادة الجميلة إلاّ في شيء يسير من مساجدنا في عدد من مناطق المملكة لا يكاد يذكر، كما كان الكثير خاصةً من كبار السن يحرص على الاعتكاف في المسجد خلال هذه العشر المباركة ولا يخرج من المسجد إلاّ ليلة العيد، وبصفة عامة فقد كانت تلك الليالي فيما مضى من أعوام سابقة لدى جيل الأمس عامرة بالطاعة والانصراف إلى الصلاة والاعتكاف، وكان التلفزيون بقناته الوحيدة هو مصدر الترفيه الوحيد قبل انتشار الفضائيات التي يحتار المرء في أيها يتابع ببرامجها ومسابقاتها ومسلسلاتها المتعددة، ولم يكن هناك محال تجارية أو أسواق تفتح أبوابها لما بعد منتصف الليل أو إلى ساعات الفجر الأولى، فقد كانت بسيطة وهي عبارة عن «دكاكين» صغيرة تبيع الأساسيات من المواد التموينية وقليلاً من الكماليات، أمّا في أيامنا هذه فقد كثرت الأسواق والمجمعات التجارية والمطاعم التي تفتح أبوابها من بعد صلاة العشاء إلى قبيل أذان الفجر بقليل، والتي تكتظ بالمتسوقين في ليالي العشر استعداداً لشراء ما يلزمهم ليوم العيد. قهوتكم بكرة علي لا تكاد تبدأ صلاة القيام في ليالي العشر الأواخر في رمضان المبارك حتى تعم رائحة القهوة العربية والبخور أرجاء المساجد قديماً، حيث يتسابق المصلون في المساجد على تقديم القهوة والشاي خلال فترات الاستراحة بين الركعات، فما إن تأتي الاستراحة حتى يقوم شبان بإدارة فناجين القهوة مع التمر والشاي والبخور للمصلين، فيما يقرأ الإمام موعظة من أحد الكتب، وكذلك الحال لمصلى النساء حيث تقوم الفتيات الصغيرات بتقديم فناجين القهوة والشاي التي تحضرها بعض النساء للمصلى، ويعود هذا التقليد لأعوام سابقة حيث جرت به العادة، فيما اندثرت من بعض الجوامع والمساجد، ولا يزال الكثيرون يتذكر تلك العادة التي بدأت تقل منذ عقدين أو ثلاثة، ويرى الكثيرون أن هذه العادة القديمة كانت جميلة وحميدة، حيث إن فيها تقوية على العبادة، خاصةً لكبار السن في الصف الأول؛ لأن القيام تطول مدته، وقد يرهق الكثير منهم الذين اعتادوا على تناول القهوة ونحوها من أجل التنشيط، ويتناوب جماعة المسجد في إحضارها في عدد من المساجد، إذ يعلن الراغب غداً أنه سيقوم بإحضارها، بعبارة «قهوتكم بكرة علي»، كي لا يحدث اتكال أو تضارب في المواعيد، بينما الغالبية من المساجد يكون العرف فيها على أن أحد المصلين هو من يحضرها على الدوام، وقد يتشارك أكثر من شخص في تقديمها. تقديم الماء وعلى الرغم من اندثار تلك العادة الجميلة في أكثر مساجدنا اليوم إلاّ أنه لايزال هناك البعض من القلة المتمسكين بها في عدد من مناطق المملكة ولكن ليس بطريقة جيل الأمس الذين يحضرون القهوة والشاي إلى المسجد للمصلين خلال استراحة القيام وعند بدء إلقاء الموعظة من الإمام، ولكن يتم الآن توفير القهوة والتمر طوال أيام العشر المباركة بحيث يكون مكانها في أقصى المسجد وخلف صفوف المصلين ليتم تقديمها لمن يرغب في ذلك، كما أن الغالب في أيامنا هذه وفي كل المساجد بلا استثناء تقديم الماء البارد للشرب عن طريق عرضه في ثلاجات خاصة توضع فيها عبوات صغيرة من الماء لسقيا المصلين، وقبل بدء صلاة التراويح والقيام يتم توزيع عبوات الماء أمام سجادات المصلين لتكون قريبة لمن أراد شرب الماء بين التسليمات. اعتكاف المسجد ويعتبر الاعتكاف قربة وطاعة وسنة، خاصةً في رمضان وفي العشر الأواخر منه لوجود ليلة القدر، ومعنى الاعتكاف في الشريعة هو المكث في المسجد بقصد التعبّد للّه وحده، وهو مشروع قرآناً وسنة وإجماعاً، وقد كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يأمر بخباء - على مثل هيئة الخيمة - فيضرب له في المسجد، فيمكث فيه، يخلو فيه عن الناس ويقبل على ربه تبارك وتعالى، وتقول عنه أم المؤمنين عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها: «وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلاّ لِحَاجَةٍ إِذَا كَانَ مُعْتَكِفاً»، وكان يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً، ومازال الكثيرون يحرصون على الاعتكاف في المسجد، ففي الأمس القريب كان كبار السن خاصةً يعتكفون في المساجد وخاصة الجوامع، فيمضون العديد من ليالي العشر معتكفين ويحضر لهم ذووهم طعام الإفطار بينما يخرجون إلى المواضئ القريبة أو الملحقة بالمسجد والتي تسمى قديماً ب»المسقاة» ليغتسلوا أو يتوضؤوا، وفي أيامنا هذه فقد بات الاعتكاف ميسراً حيث يلقى المعتكف الكثير من الخدمات وهو في معتكفه حيث يقوم العديد من الموسرين بتقديم وجبات الإفطار والسحور إليهم ابتغاء الأجر والمثوبة، كما تم تهيئة العديد من الجوامع في مختلف مناطق المملكة بأماكن للمعتكفين زودت بأماكن للنوم وخزانات لحفظ أغراض المعتكف، ودورات مياه خاصة بهم للوضوء والاستحمام، مما يجعل المرء يتفرغ للعبادة والخلوة دون الحاجة إلى الخروج من المسجد لطلب أي خدمة. آلية تنظيم وكذلك الحال بالنسبة إلى المسجد الحرام والمسجد النبوي فقد تم تهيئة أماكن مخصصة للمعتكفين، وفي آخر التطورات في هذا المجال فقد وضعت الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي «برنامج الاعتكاف» على موقعها مشتملاً على آلية تنظيم الاعتكاف في المسجد الحرام والمسجد النبوي وأسماء المعتكفين خلال فترة الاعتكاف التي تستمر حتى نهاية صلاة العشاء ليلة عيد الفطر المبارك، وهي في كل عام تدعو الراغبين في التسجيل للاعتكاف بزيارة الرابط الإلكتروني لتسجيل أسمائهم، كما تقوم الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي ممثلة بالإدارة العامة للتوجيه والإرشاد بتنظيم عملية الاعتكاف بالمسجد الحرام من خلال برنامج الاعتكاف، فقد تم عمل مربعات خاصة بالرجال، وأخرى للنساء محاطة بحواجز في «قبو» توسعة الملك فهد على يمين الداخل وعلى يساره، كما أن هناك مواقع خاصة للرجال في بقية «القبو»، وهذه المواقع مخصصة لأغراض المعتكفين المسموح بها، وقد تم وضع مراقبين من إدارة التوجيه على هذه الأبواب مزودين بإرشادات للمعتكفين على هيئة مطويات وكروت صغيرة تشتمل على تعليمات الاعتكاف وفيها إرشادات للمعتكفين، وهناك أغراض خاصة يسمح فيها للمعتكف أن يدخل بها وهي: سجادة صلاة مفردة وغطاء خفيف مفرد ومخدة وقطعتا إحرام فقط، ويمنع الاعتكاف في «قبو» المسعى، حتى لا يحدث إعاقة للساعين، وقد تم تأمين خزائن لحفظ أغراض المعتكفين تم تصميمها بطريقة احترافية تخدم المعتكفين بطريقة آمنه تمتاز بعدم وجود زوايا حادة حتى لا تؤذيهم عند الاحتكاك بها، كما تحتوي الخزائن على أقفال إلكترونية يمكن فتح وغلق الباب بكل يسر وسهولة، وكذلك إضاءة داخلية، وأيضاً فتحات تهوية. ويعتكف الكثيرون في مختلف مناطق المملكة في عدد من المساجد والجوامع ففي مدينة الرياض يوجد العديد من الجوامع التي تستقبل المعتكفين منها على سبيل المثال «جامع الراجحي» الذي يعتكف به أكثر من (600) شخص سنوياً. أسواق ومجمعات وعلى الرغم من توفر كافة الإمكانات في حياتنا المعاصرة اليوم والتي سهلت الكثير من أمور الحياة مما جعل الرفاهية سمة بارزة في حياتنا اليومية، إلاّ أن هناك الكثير ممن ألهتهم الحياة المعاصرة بصخبها وكثرة مشاغلها، وباتوا منغمسين في ملذاتها بما أفرزته من أجهزة تواصل اجتماعي وقنوات فضائية وأسواق ومجمعات تجارية مزودة بكل أنواع الرفاهية، وكذلك المطاعم الراقية، وفي شهر رمضان المبارك يفوت البعض أوقات الفراغ بجلسات السمر التي تمتد إلى ساعات الفجر، بينما تعج الأسواق والمجمعات التجارية بالمتسوقين من الأسر من أجل تأمين ملابس العيد وما يلزم من حلويات وكماليات، والبعض الآخر يهم في تجديد أثاث منزله كالمجالس وغرف الطعام أو إجراء ترميم بسيط في الأيام الأخيرة من رمضان، وينشط في ذلك من أجل استقبال زوار العيد، مما يفوت على هؤلاء الانتظام في صلاة التراويح والقيام أو الاعتكاف في هذه العشر المباركة، ولكن هناك من يحرص على اغتنام الفرصة وتجده قد فرّغ نفسه لذلك تماماً، فقد أنجز ما يريد من الأعمال قبل بدء رمضان أو في أول أيامه على أكثر تقدير. معتكفون داخل المسجد النبوي التمر والماء يقدمان في أغلب المساجد طيلة أيام العام فترة استراحة بين ركعات القيام خزانات حفظ أمتعة المعتكفين بالمسجد الحرام برنامج الاعتكاف على موقع الرئاسة العامة لشؤون الحرمين الأسواق باتت تشغل أفراد المجتمع لمواجهة متطلبات العيد Your browser does not support the video tag.