إن أي منصة إعلامية تدعي "الرأي والرأي الآخر" والانفتاح على جميع الأطياف السياسية والاتجاهات الفكرية، يبقى من حقها بل ومن صميم عملها استحضار مختلف الآراء الخلافية والاتجاهات المتضادة، في نطاق الحدود القانونية والأخلاقية التي تفرضها الممارسة الإعلامية وتضبطها القوانين الدولية والأعراف السياسية. لقد تولدت القناعة عند المشاهد العربي والأجنبي، على السواء، أن أجندة (الجزيرة)، من خلال استضافتها لأطياف المعارضة السياسية (في بعدها المؤسساتي البنيوي) وأصحاب الأطروحات المناوئة للطرح الرسمي للدول، تتجاوز مجرد محاولة الظهور بصورة المؤسسة الإعلامية المحايدة التي تبسط القضايا السياسية بعيون بريئة، إلى العمل على التدخل في الشؤون الداخلية للدول قصد إخضاعها للرؤية السياسية للقيادة الجديدة في الدوحة. في هذا السياق، سنحاول استعراض علاقة الجزيرة مع مختلف الأطروحات المعارضة، والتي تهدف من خلالها القناة ضرب الوحدة السياسية للدول العربية والإسلامية كمقدمة لمحاولة إنهاكها سياسياً وأمنياً لخلق الظروف الموضوعية لحالة من "التوحش" تجعل من هذه الدول كيانات "فاشلة"، وبذلك يسهل إخضاعها وتوجيهها. المملكة العربية السعودية: محاولات النفخ في معارضة ميتة لا يترك الملك سلمان أي فرصة تمر إلا ويعبر عن تقبله لجميع الآراء والرؤى المعارضة والتي تصب في المصلحة الوطنية للمملكة وللشعب السعودي. غير أن بعض الأصوات، تجاوزت المطالبة بالإصلاح، إلى المطالبة بإسقاط النظام السعودي جملة، مدفوعة، في ذلك، من طرف مجموعة من التنظيمات والكيانات الإقليمية التي ترى في سقوط المملكة العربية السعودية، مدخلاً أساسياً لوضع يدها على منطقة الخليج العربي. التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية سياسة ثابتة اعتمدتها (الجزيرة) ومن بين المحطات التلفزيونية "النادرة" التي فتحت ذراعيها لهاته الأصوات النشاز، نجد قناة الجزيرة، والتي أصبحت الفضاء الإعلامي المفضل لتوجيه سهام النقد للسياسة والنظام السعوديين، في محاولة يائسة للعب على وتر المشروعية السياسية والدينية والشعبية لأسرة آل سعود، والتي حكمت لقرون بسياسة قوامها الحزم في مواجهة أطماع الخارج، والحكمة في تعاملها مع مطالب الداخل، في محيط استراتيجي جد حساس، يتطلب وحدة الصف الداخلي كضمانة لتفادي أي اختراق من أعداء المملكة ومنطقة الخليج، بشكل عام. وفي زلة لسان "إعلامية" للقناة القطرية تعكس حجم الإجماع حول ثوابت المملكة وتوجهاتها، جاء استطلاع للرأي أجراه برنامج "الاتجاه المعاكس" حول الإصلاح بالمملكة العربية السعودية، بنتائج لم تكن لترضي القناة، حيث صوت 1229 شخصاً بأن الإصلاح يجب أن تكون منطلقاته من الداخل، فيما عبر أقل من 300 شخص عن كون الإصلاح يمكن أن يأتي من الخارج. هذا المعطى يشكل شهادة وضربة من نيران صديقة، تثبت الإجماع الداخلي الذي يحكم التعاقد الاجتماعي في المملكة بين القيادة السياسية والشعب السعودي. في نفس سياق الأحداث، دفعت الأزمة القطرية الأخيرة المنصة الإعلامية لاستقطاب بعض الأصوات الشاردة وحاولت "تأليف عقولها" ببعض المال القطري وتوجيهها للمطالبة بإصلاحات جوهرية في الداخل السعودي (لم تحدد طبيعتها)، وهددت باللجوء إلى ما وصفته ردات فعل "عملية" تجاه السياسة السعودية التي تراها لا تتماشى والأعراف الديمقراطية التي تحكم دول العالم، حسب زعمها. الجزيرة والإمارات: تودد في السر واستهداف في العلن بعدما كانت تتودد للإمارات وتسبغ عليها أسمى عبارات الثناء والمديح، لاعتبارات إعلانية لا مجال للخوض فيها، تحولت (الجزيرة)، بين عشية وضحاها وبتوجيه من القيادة السياسية في الدوحة، إلى مهاجم شرس للإمارات ومنصة تستقطب المعارضين الإماراتيين "الخارجين" عن الإجماع السياسي والشعبي في دولة الإمارات. في هذا السياق، قامت القناة باستضافة الإخواني حسن الدقي وقدمته على أنه داعية ومفكر إسلامي وأمين عام لحزب "وهمي" أطلق عليه "حزب الأمة الإماراتي". هذا الأخير اتهم الإمارات وحكامها بأبشع النعوت، ووصفها بأنها دولة "قمعية وتعيسة هرمت وتفسخت وأتخمت وهي تسرق شعبها وتأكل حقوقه"، في تصريح لا يختلف عن الطرح الإرهابي الإخواني الذي غالباً ما يطبق مقولة "أكل الغلة وسب الملة"، وذلك بعد عقود من الحرية والامتيازات التي استفاد منها التنظيم الإخواني الخبيث في الإمارات، والذي ظل يمني النفس، لعقود، بالوصول إلى السلطة كهدف استراتيجي للتحرك في الداخل الإماراتي. من جهة أخرى، فتحت قناة الجزيرة منصتها للمدعو أحمد منصور، وهو إماراتي عرف بمواقفه العدائية من النظام الحاكم بالإمارات، كما استغل موجة ما أطلق عليه ب"الربيع العربي" لتوجيه سهام النقد، كان الغرض محاولة توفير المناخ الملائم لإحداث تغيير سياسي في الداخل الإماراتي، بدعم واضح من منظمات حقوقية وكيانات سياسية توجهها وتمولها الدوحة. معارض إماراتي آخر وضع سمومه وخبثه رهن إشارة قناة الجزيرة، ويتعلق الأمر، هذه المرة، بالمدعو جاسم الشامسي والذي شارك في برنامج خبيث عنونته المنصة الإرهابية ب"إمارة الخوف"، حيث وصف الشامسي الإمارات بأوصاف لا نرى أنها تستحق المرور عليها لافتقارها لأدنى شروط المصداقية والشفافية. ونكتفي بالقول إن وصف دولة رائدة وقبلة للاستثمارات العالمية ب"السجن الكبير"، كافية لعدم الرد على سفاهة وسفاسف مثل هذا القول. استطلاع برنامج «الاتجاه المعاكس» وضع (القناة) في موقف محرج ضد توجهاتها (الجزيرة) توددت للإمارات وأسبغت عليها الثناء والمديح لاعتبارات إعلانية «الجزيرة» أصبحت ملاذاً وملجأً لكل ناقم على السلطة في البحرين (القناة) تخلت عن تقيتها بعد إسقاط مرسي وأصبحت تطالب علانية بإسقاط النظام المصري الجزيرة والبحرين: العصا الإعلامية في يد الكيان الصفوي شكلت مملكة البحرين ساحة مواتية لبلورة التحالف القطري-الإيراني على الأرض، حيث لم تدخر الدوحة جهداً في التسريع من وتيرة التصعيد السياسي والشعبي من أجل التمكين للمكون الشيعي، في شقه المتطرف والتابع عقدياً لمشروع ولاية الفقيه، عبر تسخير منصتها الإعلامية "الجزيرة" من أجل محاولة توجيه الشارع البحريني لما يخدم الطرح السياسي للحليف الرئيسي للدوحة ممثلاً في نظام ولاية الفقيه في طهران. في هذا السياق، سهرت قناة الجزيرة على فتح شاشاتها للأصوات المعارضة في البحرين، والتي تعدت أجندتها مجرد المطالبة بإصلاحات سياسية أو دستورية إلى الدعوة إلى الخروج على النظام الحاكم بالمملكة ورفع شعارات من قبيل "ارحلوا" في وجه الأسرة الحاكمة في البحرين. وفي الوقت الذي قامت فيه السلطات البحرينية بطرد العديد من العناصر التي تورطت في أحداث التسعينات، التي أشرنا إليها في معرض تأصيلنا للتاريخ الدموي لحزب الله، وعلى رأسهم حمزة الديري وحيدر الستري، قامت الجزيرة باستضافتهم إلى جانب المدعو منصور الجمري في لقاء مفتوح في لندن والذي قامت بالترويج له القناة القطرية على نطاق واسع. لقد أصبحت إطلالات المعارضة البحرينية على قناة الجزيرة مسألة مألوفة، وعلى رأسهم المدعو منصور الجمري الذي استضافته الجزيرة على الهواء في نفس الليلة التي كانت فيها البحرين تستعد للتصويت على مشروع ميثاق العمل الوطني والذي اعتُبر أحد أهم مداخل الاصلاح، حيث استغل الجمري المنصة الإعلامية من أجل التوجيه لعدم التصويت لفائدة مشروع الميثاق. لقد كانت الجزيرة منصة للمعارضة البحرينية بامتياز، رغم بعض الحضور "المحتشم" للصوت الوطني على شاشتها، فيما يعتقد أنه "ترتيب" بين القناة والتيارات المعارضة من أجل التضييق على الأصوات التي ترفض الطرح الانقلابي الموالي للنظام الإيراني وإظهار الصوت المعارض وكأنه الوحيد على الساحة السياسية والشعبية الذي يمتلك امتداداً شعبيّاً واختراقاً مؤسساتياً يؤهله للإمساك بزمام الأمور مع أول "هزة" اجتماعية أو سياسية. وحتى مع فسح المجال "على احتشام" للصوت الوطني البحريني، فإن ذلك يتم بأسلوب استفزازي مقصود تتحول فيه المقابلة التلفزيونية إلى نوع من التحقيق والاستنطاق البوليسي يضع الضيف في موقع المتهم وليس المدافع عن وجهة نظره من القضايا المطروحة. لقد كانت "الجزيرة" ملاذاً وملجأً لكل ناقم على السلطة في البحرين وكل من رأى نفسه على هامش التطور السياسي الذي تعرفه المنامة، خصوصاً إذا كانت المطالب الانقلابية مصدر رزق والخيانة موضع تقدير من قناة أصبحت عملياً "جزيرة" لا يعرف موقعها ولا توجهها مع سقوط آخر قلاع أسطورة "الرأي والرأي الآخر". الجزيرة وجمهورية مصر العربية: اللطم على سقوط حكم "الإخوان" تبقى جمهورية مصر العربية من أكثر الدول التي اكتوت بنيران القناة المثيرة للجدل والتي تسير بخطى حثيثة نحو التحول عمليّاً إلى "جزيرة"، بعدما انكشفت حقيقة الخط التحريري والإعلامي الذي تخضع له وسقوط أسطورة الموضوعية والحيادية. وفي سياقات رصد العداء الإعلامي لقناة الجزيرة لجمهورية مصر، يجب أن نحيل قارئ "الرياض" إلى مجموعة من النقاط الخلافية التي تطبع العلاقات المصرية-القطرية والتي كان لها انعكاس كبير على التغطية الإعلامية للجزيرة لما يقع في الداخل المصري، خصوصاً بعد سقوط النظام الإخواني الموالي للدوحة بعد ثورة 30 يونيو 2013. أولى الخلافات تتعلق بالموقف من المشهد السياسي اللبناني، حيث كانت مصر تؤيد الشرعية اللبنانية، فيما كانت "الجزيرة" تقف إلى صفوف (حزب الله). وفي فلسطين كانت مصر، ولا تزال، مع الشرعية الفلسطينية، فيما "الجزيرة" لم تعترف إلا بحماس. وفي اليمن ظلت مواقف مصر ثابتة وداعمة للشرعية اليمنية، في الوقت الذي كانت فيه "الجزيرة" تتواطأ وتغطي أنشطة جماعة أنصار الحوثي. وأخيراً، رفضت مصر رفضاً علنيّاً ودون تردد قيام أي قاعدة عسكرية أميركية على أراضيها، لكن "الجزيرة" تأسست على بعد أمتار من أضخم قواعد أميركا العسكرية خارج الولاياتالمتحدة الأميركية. هذا المستوى من الخلاف، سيتطور بشكل خطير، بعدما نجح الشعب المصري في إسقاط الحكم الإخواني الذي أراد أن يُلحق مصر سياسياً وعقدياً بنظام الدوحة وتركيا، حيث تحولت قطر، عملياً، إلى العاصمة السياسية ل"لإخوان المسلمين" في العالم. في هذا السياق، لا يستحي مدير قناة الجزيرة السابق، المستقيل أو المقال، ياسر أبو هلالة أن يقول بأن: "استضافة المعارضة المصرية على شاشة الجزيرة، أمر لا يمكننا التخلي عنه لأنه جزء من مهنيتنا". هذا التصريح جاء عقب اتهام "الجزيرة" بكونها أصبحت منبراً للتنظيم الإرهابي لجماعة "الإخوان المسلمين"، والتي تخلت عن تقيتها، بعد إسقاط الرئيس المخلوع محمد مرسي، وأصبحت تطالب علانية بإسقاط النظام المصري. ورغم أن تاريخ الجماعة، كما أصلت لذلك "الرياض" سابقاً، حافل بالمشاهد الدموية والاغتيالات والتفجيرات التي هزت مصر منذ أواسط أربعينيات القرن الماضي، إلا أن "الجزيرة" ظلت تصف الجماعة بأنها "من أوضح الحركات الإسلامية منهجاً وفكراً، وأكثرها اعتدالاً ويسراً". هذا المعطى جعل الوجوه الإخوانية تغزو قناة الجزيرة، حيث لازال "مفتي الديار القطرية" يوسف القرضاوي يلقي برنامجه الأسبوعي "الشريعة والحياة"، والذي أطلق من خلاله سيلاً من الفتاوى المحرضة على العنف والإرهاب ضد النظام المصري، كما يعتبر رأس التنظير للتنظيم الدولي للإخوان ومرجعه العقدي والسياسي، وهو صاحب فكرة "الخلافة اللامركزية"، من خلال دعوته لتبني مشروع الخلافة الإسلامية على النمط الفيدرالي الأوروبي أو الكونفدرالي الأميركي. وجه آخر لا يقل دموية عن القرضاوي تستضيفه بشكل دوري قناة "الجزيرة"، هو المدعو وجدي غنيم الذي عرف بفتاويه التكفيرية ومواقفه الدموية كان من أشهرها تأكيده على شرعية الأعمال الوحشية التي تقوم بها (داعش) وإشادته العلنية بالطريقة الوحشية واللاإنسانية التي قتل بها الطيار الأردني الشهيد معاذ الكساسبة. هذا الموقف من "الجزيرة" والذي يعتبر تدخلاً سافراً في الشأن المصري، تم تتويجه ببرنامج وثائقي بثته الجزيرة بتاريخ 28 أغسطس الماضي بعنوان "الإخوان والعسكر"، حاولت من خلاله الجزيرة إعادة رسم تاريخ مشرق للإخوان وطمس المشاهد الدموية والإرهابية التي وثقتها كتابات قيادات في الصف الأول من الجماعة وعلى رأسهم فريد عبدالخالق، والشيخ محمد الغزالي، وعلي عشماوي وغيرهم. كانت هذه بعض معالم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية والتي اعتمدتها الجزيرة، كسياسة ثابتة، من أجل خلق كيانات سياسية تابعة للدوحة، أو على الأقل إخضاع الأنظمة الحالية للتوجهات السياسية للإمارة. ياسر أبوهلالة جاسم الشامسي وجدي غنيم منصور الجمري أحمد منصور الشحي Your browser does not support the video tag.