خلال تاريخه الطويل لم يكتشف الإنسان الجراثيم إلا في العام 1673.. وطوال المليوني عام السابقة كانت هي العدو الأول للإنسان والمسبب الرئيس لوفاة البشر.. بكتيريا الطاعون قضت على ثلث أوروبا في القرن الرابع عشر.. وطفيلي الملاريا قتل 500 مليون إنسان خلال عشرة قرون.. في حين كان فيروس الجدري يحصد ملايين الأرواح في آسيا وأفريقيا.. وفي الإجمال؛ كانت هذه المخلوقات الدقيقة (والتي لا ترى بالعين المجردة) تقضي على شعوب كاملة دون أن يعلم أحد بوجودها أصلاً.. صحيح أن جسم الإنسان يملك جهاز مناعة ذاتية.. وصحيح أن جلده الخارجي يمنع دخول الجراثيم؛ ولكنها كانت في النهاية تدخل بواسطة العدوى (أو أي جرح مفتوح) وتتغلب على جهازه المناعي.. لم يتحسن الوضع إلا بعد ثلاثة اكتشافات مهمة: الأول: حين اكتشف الهولندي فان ليفنهوك وجود الجراثيم باستعمال ميكروسكوب صنعه بنفسه.. والثاني: حين اكتشف العلماء طريقة عمل اللقاحات والمضادات الحيوية.. والثالث: حين اكتشف جوزيف ليستر أهمية التعقيم في إجراءات العلاج ذاتها.. فيما يتعلق بالمضادات الحيوية، لاحظت حضارات كثيرة أن بعض المواد (كعفن الخبز ولحاء الكينا) فعالة في شفاء الجروح وعلاج الأمراض.. لم يعرف أحد السبب حتى اكتشف الطبيب الأسكتلندي فلمنج مضاد البنسلين في العام 1928 وفتح الباب لصنع مضادات أخرى كثيرة.. أما «التعقيم» فمسألة استباقية مهمة خصوصاً في الإجراءات الطبية.. فقبل إدراك أهمية «التعقيم» كان فتح الجسم (أثناء العمليات الجراحية) وتلوث المستشفيات (بالجراثيم) يتسببان بوفاة نسبة كبيرة من المرضى.. كان جوزيف ليستر (رئيس قسم الجراحة في مستشفى جلاسكو) يدرك أهمية النظافة في غرف المرضى وأدوات الجراحة.. غير أن نسبة الوفيات لم تنخفض، رغم رفعه المستمر لمعايير النظافة.. وفي العام 1865 قرأ عن اكتشافات لويس باستور(الذي أثبت دور الجراثيم والميكروبات في التلوث والتسمم وخلق الأمراض)، فوضع إجراءات صارمة لتعقيم غرف العمليات والأدوات الجراحية.. أدرك لأول مرة الفرق بين «التنظيف» و»التعقيم».. التنظيف يزيل الأوساخ، والتعقيم يقضي على الجراثيم والمخلوقات المجهرية الضارة.. أدرك ضرورة قتل الجراثيم في غرف العمليات قبل فتح جسم المريض.. استخدم حامض الكربوليك كمادة معقمة وأمر الأطباء بتعقيم أيديهم وملابسهم وأدواتهم بالكحول والحمض والحرارة العالية.. وأمر بالتخلص من الحقن والقفازات، وعدم استعمال نفس الأدوات مرة أخرى، بل وخصص شخصاً مهمته نثر حامض الكربوليك في هواء الغرفة.. وخلال وقت بسيط اتضحت فعالية هذه الإجراءات وهبطت نسبة المتوفين في مستشفى جلاسكو من 45 % إلى 15 % بين عامي 1866 و1869 فقط... وبعمله هذا لم يخفض فقط نسبة الوفيات، بل وضع معايير وبروتوكولات طبية مازالت مستخدمة حتى اليوم.. أكد للوسط الطبي مسؤولية الجراثيم عن النتائج السلبية (التالية للإجراءات الطبية)، وأهمية التعقيم في شفاء المرضى بنسبة توازي الإجراءات الطبية ذاتها.. لا عجب إذاً أن يختاره المؤرخ الأميركي مايكل هارت ضمن قائمة «أعظم مئة رجل في التاريخ»!! Your browser does not support the video tag.