إن كان لا مناص من التفرقة، فأيّهما ذو عائد أعلى: الغِنَى، أم الاستغناء؟ وأين يسكن الغِنَى الحقيقي: في حيازة الأشياء، أم في الاستغناء عنها؟ في حقيقة الأمر، إنّ الأغنى ليس هو الأوفر أملاكاً - بالضرورة -، وإنّما الأشدّ تحرّراً من الاحتياج. ووحده الاستغناء يساوي صاحبه مع، بل ويرفعه فوق، من لديهم ما يفتقر إليه من الأشياء. ورُبّ ثريّ بحاجة إلى نظرة. ورُبّ ذي فاقة، في غنى عن سكّان المعمورة قاطبة. ورغم الاعتقاد أنّ الامتلاك يحرّر، إلا أنّه بقدر التخلّي، يكون التجلّي. وعن التخلّي تنجم الحريّة الحقيقيّة، إضافة إلى فيض مرادف من العطايا الجسام. يكمن الاستغناء في اكتفائك بما في داخلك، عن كلّ عَرَض يؤول إلى عالم الشكل. ولا يحوز أحد قطّ شيئاً تصبو إليه. ويساند هذا الاكتفاء إيمانُك الراسخ أنّ الناس هشّون ومحتاجون ومصيرهم الزوال، وأنّهم ليسوا بالقدرة ولا الحيازة ولا التمكّن، التي يظهرون بها، وتنطلي على كثيرين. ويؤازر هذا الإيمانَ يقينُك أنّ أيّاً كان ما في جعبتهم، فهو محدود وعُرضة وذو أمد مؤقّت. إنّ الاحتياج ارتهان، وإنّ الزهد لمن موفور النعم، وأنت خارج القفص، إلى أن تحتاج. وطواعية يبرع الناس في صنع أقفاصهم - كُلّا وقفصه -، ويزجّون بأنفسهم زجّاً في أتونها الوخيم. وعلى الرغم من أنّ التوق إلى ما عند الآخرين حمولة، سينوء بها القلب، هناك من يشرئبّون إلى ما لا يحتاجون، أكثر ممّا يحتاجون. إنّك يوم أن تخشى أحداً، أو تتعلّق بأحد، أو تحتاج إلى أحد، فقد منحته سلطة ما على روحك. ولكن ساعة أن توصد أبوابك، فأنت القابض الوحيد على زمام حياتك. وستغدو وقتذاك ندّاً للناس، سواء بسواء. وسوف تحتفظ بنديّتك - أعطية الله لك بالولادة -، حتى تقرّر بمحض عزيمتك أن تحتاج. وحينئذ فقد أهديت من تحتاج مزيّة، يتفوّق بها عليك، وبالتالي خسرت أفضليّة النديّة. ومن جهة ثانية، فإنّ الاستغناء عن الناس، على الصعيد الملموس كالمال، أمر ليس باليسير. ولكنّ الأشقّ والأشدّ أهمّيّة هو الاستغناء المعنوي عنهم. وفي ساحة الاحتياج المعنوي تمتدّ الأرصفة غير المرئيّة للتسوّل. وعلى جنبات هذه الأرصفة معروضات عصيّة على الحصر، كالحاجة لحبّ الناس، ودرايتهم، وثنائهم، وإقرارهم، ومساعدتهم، وتفهّمهم إقناعهم ،...، وهلمّ جرّاً، علاوة على الحاجة للقوّة والسلطة والتأثير، وهكذا دواليك. فإذا كنت ترنو إلى الفلاح، فلْتعتنق الاستغناء، ولتحرّر فؤادك من الرغبات غير المجدية، ولتدرك أنّ غير قليل من الاحتياجات إنّما هي فكرة واهمة من تدبير عقلك الشرِه. إنّ الله وحده هو كلّ ما تحتاج إليه. وبين يديه، لا سواه، تقيم سائر الاحتياجات. Your browser does not support the video tag.