يخالجني شعور بعد رحيل ابن أخي الأقرب بل أخي في واقع الأمر أنني أكبر من خسره وأعظم من فقده، ذلك أنني أكثر من صحبه، فمنذ أن عرفت الأشياء من حولي في هذه الدنيا عرفت حسون، وبدأت أمارس طقوس طفولتي مع حسون، فأنام في فراش واحد مع حسون، وأصحو مع حسون حتى امتزجت بي حروف اسمه تماماً، كما امتزج حبه وكل صفة فيه بصفاتي، ولا أذكر أننا اختلفنا طيلة العقود التي قضيناها معاً، وهذا ديدنه معي ومع غيري. لقد أنشأنا مصطلحات وعبارات وكلمات خاصة وهي أشبه ما تكون بشفرات فيما بيننا لا أستخدمها إلا معه ولا يستخدمها إلا معي، لذا آثرت أن أواريها في قبره، فلم تعد لها حاجة أو قيمة؛ لأنني عندما ألقيها عبثاً بين أبنائي حيناً فإنها تحتاج إلى إسهاب يطول شرحه. إن من أهم صفاته حبه للوصل والاجتماع، وكرهه للخلاف والجدال، ناهيك عن صدقه وكرمه وخدمته وحبه لعمل الخير، وليست هذه والله صفات ألقيها جزافاً بل واقعاً كان عليه الفقيد، يشهد بذلك دون تردد من يعرف حسون، ذهب طيب القلب خفيف الذنب، لقد تعلمت منه الكثير فاستسقيت منه طفولتي ومازلت، حتى وهو في قبره بعد الممات أنهل من دروسه ومواقفه، كنت في أيام العزاء يمتعني حديث المعزين على اختلاف أعمارهم ومستوياتهم ووعيهم الفكري، فمن جلس منهم في ساحة العزاء ردد نصاً قاله الذين سبقوه، وكأنما هو نص مكتوب على لوحة أمام من جلس لا يزاد عليه ولا ينقص (كان الله يرحمه طيباً، قلبه أبيض، متسامحاً محباً للخير لا يعرف دروب الحرام ولم يتخذ غير طريق المسجد سبيلاً) فهنيئاً له، وهذا والله مصداق لحديث رسول الله الذي ذكر فيه أن أمته لا تجتمع على ضلالة وتأكيد لمقولة: الناس شهود الله في أرضه، حسون كما كان يحمل اسم العائلة كان يحمل همها، وكأنما كتب عليه بعد تسميته بها أن يأخذها بشموليتها معنى ومبنى، فهو الحريص على لمّ شملها كما لمّ حروفها، وهو الذي لم يتردد في حضوره الفاعل في كل اجتماعاتها ومتطلباتها كان خير معين لأفرادها، كان الخلوق البشوش المتسامح المصلح. تكلمت معه طوال السنوات عن كل شيء، نطلع على الأسرار، ونتبادل الأخبار، إلا عن اليوم الأخير لم نتحدث ولَم يدر في خلدي أنني من سيقوم بتغسيله وتكفينه ونزع ملابسه وجواربه، وأقف بروحي وجسدي جوار جسد بلا روح، ولم يكن بعلمي ولا علمه أنني سأنزل في قبره لأبني لحده بيديّ، وسأكون آخر من يغادر ذلك الجسد الطاهر في قبره، إنها لحياة يكتنفها الغموض والرحيل المر. نعم رحل فغيابه صعب ورحيله مر، لكنه ترك وراءه كل شيء جميل، ترك لنا كنوزاً شتى، بدءاً من سيرته العطرة المليئة باللطائف والدروس مروراً بأبنائه الأربعة الذين هم على قدر من النبل والأخلاق، وبناته الثلاث اللاتي لا يملكن اللسان حديثاً في حرم جمال أخلاقهن وطيب نفوسهن، وأخيراً تحية إجلال وإكبار لأم صالح شريكة عمره، التي سعت معه منذ أن كتب الله الشراكة قبل سبع وثلاثين سنة في الوقوف إلى جانبه وتربية أبنائه وبناته، ونعم التربية ونعم المربية التي كان يردد - رحمه الله - على مسمعي كثيراً عندما يرد ذكرها (أم صالح أو كما كان يحلو له ذكر اسمها على لسانه والله إن مزنة أجودية) حتى طغت الصفة على الموصوف. (إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك يا حسون لمحزونون). * وكيل جامعة الملك خالد Your browser does not support the video tag.