«تخيل أنك عشت في عالم ليس فيه مرايا.. كيف ستحلم بوجهك؟ كيف ستتخيله كنوع من الانعكاس الخارجي لما هو داخلك؟ بعد ذلك.. افرض أنهم وضعوا أمامك مرآة وأنت في الأربعين من عمرك، تخيل وجهك.. كنت سترى وجهاً غريباً تماماً، وكنت ستفهم بصورة جلية ما ترفض الإقرار به، وجهك ليس أنت..» ميلان كونديرا صورة الفنتازيا هذه التي يرسمها المبدع ميلان كونديرا مبهرة ونعبر من خلالها كثيراً.. ملامح هذا النص القصير الخيالي في تصوره يجعلك تعيد صياغة تفكيرك وتحاول مأسسته من جديد.. لتغوص في بحر التساؤلات المفتوحة.. ماذا لو لم يكن هناك مرايا؟ ماذا لو لم نرى وجوهنا إلا عندما نبلغ الأربعين عاماً؟ ماذا لو عشنا لا نعرف إلا وجوه الآخرين فقط؟ كيف سيتراءى ذلك لنا؟ وماذا لو اعتدنا على صمت وجوهنا وغيابها وكأنها مصنوعة من الغياب؟ أو كأنها ملامح لا تختص بنا ولا نكترث لها؟ في الواقع هناك البعض يعتد بوجهه، والآخر لا يحفل بوجهه، أو يهتم.. تتشكل ملامحه بهدوء يعيد تدويره كل يوم، ليس بحسب ما يحدث حوله أو يراه أو يعيشه ولكن بحسب كينونته وتلك المسافة الشاسعة بين ما يجري وتأثيرها على وجهه وإحساسه الذي ينعكس فعلياً عليه دون أي تآثير! والبعض تبدو ملامحه وكأنها اعتادت على برودة الأيام وثلجيتها.. يبدو وجهه وكأنه يسكن في القطب المتجمد، خاليا من أي تعبير، تجمدت كل حواسه ولم يعتد على تدفئة وجهه ليدفئ داخله.. يقتصر إحساسه بوجهه على تلك المعرفة العادية التي تتوقف على حدود النظر للآخر دون توقف أو اهتمام أو انتباه! في المرايا نحن نرى أنفسنا أو نقرأ وجوهنا، وبدونها نرى وجوه الآخرين حيث نتحول نحن وهم مرايا متبادلة.. كل منا يقرأ الآخر وكأنه مرايته.. ورغم هذه القراءة لا يفصح للآخر عن مفرداتها ولاينخرط في تحليلها له.. بل يكتفي إن لم يعجبه وجهك بالانسحاب أو الصمت.. والآخر قد يتصاعد غضبه ويقول لك إن وجهك لا يعجبه.. وأنه كمرآتك لا يعجبه هذا الوجه ولا يطيب له ولا يهتم به! نتحول كل يوم إلى مرايا نتبادلها مع الآخر الذي نعرفه والذي لا نعرفه.. مرايا بعضها يفوق سطوعه، وبعضها غير واضح، وبعضها مرايا خاطفة للصورة، وساكنة داخل اللا مبالاة أو الاهتمام! وجهك ليس أنت كما يقول كونديرا.. إن لم تعتد عليه أو تألفه.. في الحياة الطبيعية وخارج حدود الفنتازيا.. قد ترى وجهك في المرآة ولا يعجبك أحياناً رغم أنه وجهك.. تغادر المرآة وتتمنى أن تكسرها أو تتخلص منها، وقد تقول: وجهي لا يعجبني اليوم، وأحياناً ترى وجهك ويتواءم داخلك مع إعجابك بوجهك وتلك اللحظة الإيجابية التي تمر بها، هي المرايا وحدها من يعكس داخلك عليك في العشرين والأربعين والخمسين.. وكأنك تخوض معها حرباً باردة لا تعرف متى تبدأ ومتى تنتهي!! Your browser does not support the video tag.