إنَّها القراءة يا سادة هي الحد الفاصل بين الجهل والعلم، والباب الذي من طرقه فَتحت له المعرفة كنوزها، ولامس فكره الحقيقة تُصْقَل بها العقول، وتتجدد بها الأفكار وهي الطريق الذي أوصل العباقرة، والعلماء إلى قمة المجد، والسؤدد والبحر الذي من غاص في أعماقه خرج بلؤلؤ العلم، وهي عنوان التحضر، ورُقي المجتمعات، ويكفيها شرفاً أن أول آية وتوجيه رباني في القرآن الكريم نزل بها على نبينا - صلى الله عليه وسلم -: (اقرأ باسم ربك الذي خلق ) ونحنُ اليوم في أَمَسّ الحاجة للقراءة في ظل الخمول الفكري، والترهل المعرفي، وتشتت المعلومات في الفضاء الإلكتروني. وقد أفْقَدَت المعلومة الجاهزة القارئ علاقته الحميمية مع القراءة والتي لا يحصل عليها إلا بمداومة القراءة، وملازمة الكتاب ملازمةً يُصبح بها صديقه، وجليسه الوفي ولله دَرُّ (المتنبي) حين قال: أَعَزُّ مكانٍ في الدُّنَا سَرْجُ سابحٍ وخَيرُ جَلِيْسٍ في الزَّمانِ كِتابُ. والقراءة تهب لك عمراً آخرَ من خلال قراءة تجارب الآخرين، والاستفادة من أفكارهم لكن لابد لكل قارئ أن يعرف كيف يقرأ؛ فقد تقرأ كثيراً ولا تحصل على المخزون المعرفي، والإدراك الواسع اللذين هما الأهم في عملية القراءة ولا يحصلان إلا بالقراءة المُتعمِقة، والواعية لكل فكرة، ومعنى يدفعها النهم المعرفي، وحب القراءة، ولذلك حينما سُئل الفيلسوف الفرنسي (فولتير) عمّن سيقود الجنس البشري أجاب: "الذين يعرفون كيف يقرؤون" وبالقراءة يتحرر العقل من عبودية الخرافة، وتأثير العقل الجمعي، والصور النمطية وهذا المعنى أشار إليه المفكر الأمريكي (فريدريك دوغلاس) في قوله: "بمجرد أن تتعلم القراءة؛ ستكون حراً للأبد" ولقد اتسعت الفجوة بيننا، وبين الغرب علمياً بسبب استراحتنا التي طالت مدتها، ونحنُ نظنها استراحة محارب! ففي دراسة حديثة خَلصت إليها منظمة (اليونسكو) أوضحت أن نصيب كل مليون عربي لا يتجاوز 30 كتابًا، مقابل 854 كتابًا لكل مليون أوروبي، أي أن معدل قراءة الشخص العربي ربع صفحة في السنة مقابل معدل قراءة كبير للفرد الأمريكي الذي يصل إلى 11 كتابًا في العام الواحد. إنَّها معدلات مخيفة تكاد أن تُوقِف تَدفق شريان المعرفة في العقل العربي؛ لكننا متفائلون في مستقبل أفضل تتضافر به الجهود، وتُشحذ به الهمم لمواكبة تطور العالم من حولنا. وفي هذا الصدد لابد من الإشادة بالمبادرة التي أطلقها الشيخ محمد بن راشد بن مكتوم بعنوان ( تحدي القراءة العربي ) والتي ستساهم في زيادة معدل النمو المعرفي للعقل العربي. ولاشك أن إعادة المجتمع للقراءة يحتاج جهداً شاقاً، حجر الزاوية فيه تغيير ثقافة المجتمع تجاه القراءة حتى يعي أهميتها وهذا دور العلماء، والمفكرين، والكتاب ويشاركهم التعليم، والإعلام، والأُسر الواعية التي لا تنفك عن مسيرة العلم، وهذا الحراك الثقافي سيُخرج لنا جيلاً قارئاً، مُثقفاً، واعياً، مُحباً للقراءة يُزاحم نوابغ الأمم على منصات المجد سلاحه العلم، وصديقه الكتاب، وليس له عدو سوى الجهل. Your browser does not support the video tag.