القارئ الحر الذي ينتقل من عالم الفلسفة إلى عالم الأدب والنقد لا يقرأ عبثا، وإنما يقرأ وفق خطة ذهنية، قد تكون صريحة، وقد تكون مضمرة/كامنة في اللاوعي، يريد من خلالها الوصول إلى مستوى استيعاب النظريات الكبرى التي تنتظم مسار التاريخ، تاريخ الفكر، وفكر التاريخ. ذكرتُ في نهاية المقال السابق أنه يجب على كل قارئ (القارئ الحر= القراءة الحرة) أن يسأل نفسه - قبل أن يبدأ مشروعه القرائي ثلاثة أسئلة: 1 لماذا أقرأ؟ 2 ماذا أقرأ؟ 3 كيف أقرأ؟ وهي أسئلة محورية في مسيرة التأسيس لمشروع قرائي على مستوى الخيارات الفردية الحرة، المتجردة من الالتزام الخاص، والمتحررة من الالتزام العام. قبل أن أبدأ في مقاربة هذه الأسئلة أشير إلى أنني لاحظت التباسا لدى كثيرين في فهم المقصود ب"القراءة الحرة"، إذ تصوّر بعضهم أن الحرية التي أضعها في صميم عنوان المقال، وأكررها في ثناياه، تعني الفوضوية القرائية التي تقترب من مستوى العبث، أو هي العبث بعينه، في حين أن مقصودي هو: القراءة الحرة المنضبطة بمسار تثقيفي واعٍ له طابع العموم الثقافي، يلتزم به المرء أدبيا أمام نفسه، ولكنه غير مشروط بالتزام خاص (كالالتزام بإنجاز بحث محدد بموضوع وبخطة بحث) أو بالتزام عام (البحوث المرتبطة بالمؤسسات البحثية أو التعليمية). ومن هنا، فالحرية التي أطلقها هنا هي حرية في تنظيم مسارات القراءة الواعية، وبالتالي، فهي لا تُرادف الفوضى بحال، وإنما تقابل العمل القرائي المؤطر بمبحث تفصيلي، أو بمسار تخصصي دقيق. إذن، هناك قارئ فوضوي، يقرأ من هنا وهناك، بلا هدف واضح إلا التجوّل الحر في صفحات الكتب المتناثرة أمام بصره، ومن ثم، فهو يقرأ بلا ترتيب ولا نظام، وبلا ربط للمواضيع والأفكار في مسار محدد. وفي المقابل، هناك قارئ مُؤطّر بخطة بحث، قارئ باحث ملتزم بموضوع تخصصي دقيق، قارئ مشروط بمؤسسة ما؛ من حيث هو مرتبط بإنجاز محدد حتى في تفاصيله الجزئية. وهناك قارئ آخر يقع بين هذا وذاك، أي بين القارئ الفوضوي والقارئ التخصصي، وهذا هو القارئ الحر الذي أقصده بهذا المقال. لنعد إلى أسئلتنا القرائية. سنجد أن السؤال الأول: لماذا أقرأ؟ هو سؤال الهدف/الغاية. إذا قررنا أن القراءة الحرة ليست عبثا، لزم أن يحدد القارئ الحر لنفسه هدفا/أهدافا من القراءة. الجواب عن هذا السؤال الذاتي أمر مهم للغاية؛ لأنه هو الكفيل بوضع خطة تثقيفية ذات خطوط عريضة، خطة مرنة، ولكنها تمنع من الوقوع في متاهات الفوضى. يكفي أن يكون ثمة هدف عام واضح المعالم، شرط أن تتناسل عنه أهداف فرعية تُخصّص عموميته إلى الحد الأدنى المعقول ثقافيا؛ حتى يمكن تحديد/رسم حدود المدار الزمني في تَعَالقه مع المسار الفكري، وفي النهاية: قياس مستوى الانجاز، ولو على وجه التقريب. مثلا، قد يحدد القارئ الحر المبتدئ هدفه الكبير في أن يكون مفكرا عاما، أي أن يمارس مهنة التفكير المشروطة بامتلاك مهارة التعبير عن هذا التفكير. هذا بلا شك هدف عام يحتاج لمشروع قرائي واسع وطويل الأمد، ولكنه – في الوقت نفسه – هدف غائم جرّاء اتساع عموميته. والعمومية هنا تنبع من كون بوابات الفكر العام كثيرة ومتشعبة، وأحيانا متداخلة، ومحاولة الدخول إليه من خلالها جميعا مستحيل لمن يريد الجمع بين العمق والشمول. ومن هنا، فليس أمامه إلا أن يحدد من أي بوابة سيدخل، وإلا أضاع المفاتيح، وبقي عمره متسكعا على عتبات الأبواب الموصدة، أو متسولا يبيع الوهم لملايين البلهاء، وما أكثرهم في عالم الدهماء. الخطوة الأولى حاسمة، وفيها، يكفي القارئ الحر الذي يريد تكوين نفسه في عالم الفكر أن يختار إحدى بوابات الفكر الكبرى، ومنها يأخذ طريقه إلى البوابات الأخرى. التحديد هنا لا يعني الانحصار في مسار واحد، بقدر ما يعني تَبْئِير الاهتمام. ومنذ القدم، ومن يوم أن كانت الفلسفة "أم العلوم"، وإلى اليوم، وبعد أن استقل "أبناء/بنات الفلسفة" عنها، كانت الفلسفة – ولا تزال - هي البوابة الكبرى لأهم المفكرين عبر تاريخ البشرية الطويل. ومثلما أن الفلسفة هي فضاء التفكير الحر، فكذلك الأدب ونقده، إذ لا فكر من غير مَتْن لغوي= نصّ، نصّ حر، ولا نقد من غير نقد حر/متحرر من جميع القيود الماقبْلية؛ كي يستطيع اكتشاف العالَم اللامحدود للنصوص التي هي – بطبيعتها – غير محدودة/لا نهائية التأويل. من هنا نفهم لماذا كان كبار الأدباء - عبر التاريخ - مفكرين كبارا، وكان نقادهم الكبار مفكرين كبارا أيضا. الإبداع الأدبي هو – بصورة ما – تفكير إبداعي؛ حتى لو لم يقصد/لم يعِ المبدع ذلك. والنقد/التحليل الذي يشتغل على هذا الإبداع هو محاورة إبداعية/فكرية لمجمل الرؤى؛ مادة وصورة؛ مضمونا وشكلا. ولهذا السبب، امتدت علاقة الأدب بالفلسفة إلى أعماق التاريخ، منذ أفلاطون وأرسطو وإلى اليوم، لا لأن الأدب واقعة فنية يُعنى بها الفلاسفة من زاوية علم الجمال (الاستاطيقا) فحسب، وإنما أيضا لأن الأدب في نصوصه الخالدة يتضمن – بشكل صريح أو مضمر – كثيرا من الأفكار/الرؤى/المواقف، السياسية والدينية والأسطورية والتاريخية والأخلاقية..إلخ، ما جعل نقاد هذا الأدب مفكرين بالضرورة (أقصد النقاد الحقيقيين، لا مدرسي الأدب والنقد في جامعاتنا التقليدية)، ليس هذا في العصر الحديث فحسب، وإنما في العصر القديم أيضا، وما الجاحظ والتوحيدي والمعري في تراثنا إلا نماذج – قد تكون بسيطة، ولكنها دالة –على العلاقة العضوية بين عالم الأدب والنقد من جهة، وعالم الفكر والفلسفة من جهة أخرى، وهي - في كل الأحوال - علاقة وطيدة على امتداد التاريخ، إلا أنها كشفت عن وجهها الصريح في النظريات النقدية المعاصرة. إذن، القارئ الحر الذي ينتقل من عالم الفلسفة إلى عالم الأدب والنقد لا يقرأ عبثا، وإنما يقرأ وفق خطة ذهنية، قد تكون صريحة، وقد تكون مضمرة/كامنة في اللاوعي، يريد من خلالها الوصول إلى مستوى استيعاب النظريات الكبرى التي تنتظم مسار التاريخ، تاريخ الفكر، وفكر التاريخ. وإذا تجاوز ذلك، وقرأ في الفكر الديني، أو في التراث الأسطوري، أو تجاوزه إلى الفكر السياسي، فهو لا يبتعد عن خطه العام الذي ارتسمه؛ لتداخل هذه الحقول المعرفية. فأنت مثلا، إذا قرأت كتاب: (تكوين العقل الحديث) ل"جون هرمان راندال"، في الوقت الذي تقرأ فيه كتاب: (روح الديمقراطية) ل"لاري دايموند"، وكتاب: (ما الثورة الدينية) ل "داريوش شايغان"، وكتاب: (آفاق النظرية الأدبية) ل"صالح زياد"، وكتاب: (الخطاب والتأويل) ل"نصر حامد أبو زيد"، وكتاب: (السلطة في الإسلام) ل"عبد الجواد ياسين"، فأنت لست فوضويا في قراءتك؛ رغم تنوع الحقول المعرفية التي تنتمي إليها هذه الكتب، إذ هي – في النهاية – تمارس اشتغالها التنظري/النقدي على النص الذي يعكس الواقع، أو على الواقع الذي يعكس النص، أو على العلاقة بينهما. السؤال الثاني: ماذا أقرأ؟ هذا سؤال مرتبط بالأول، فالهدف من القراءة يُحدّد مواد القراءة. ومن هنا، تتحدد الأولويات التي ترتبط بالمدخل الذي يجد القارئ فيه نفسه، فليس من المعقول أن تجعل النقد الأدبي/الثقافي مدخلك في مقارباتك الفكرية، وفي الوقت نفسه تنهمك في كتابات تخصصية فرعية، قد تغني أصولها عن فروعها، فمثلا، في حقل (أصول الفقه) يكفي – إذا لم يكن الفكر الديني من صلب اهتماماتك - أن تقرأ ما كتبه الآمدي والجويني والغزالي وابن حزم والشوكاني من القدماء، والنجار والنملة من المحدثين؛ لأخذ صورة كافية عن هذا الحقل في سياقه التقليدي. وحتى تستوفي الصورة من طرق غير تقليدية، يمكن أن تقرأ الكتابات النقدية المعاصرة (مثل كتاب يحيى رمضان: القراءة في الخطاب الأصولي) التي تناولت هذا الفكر الأصولي (أصول الفقه، لا الأصوليات الحركية)، ولا تنسق وراء جدلياته المتفرعة؛ إلا في حال وجدت نفسك - لسبب ما - مضطرا للبحث في هذا الموضوع على نحو تفصيلي. من الطبيعي أن يأخذ القارئ الحر/غير المتخصص من كل تخصص أجود وأجمع ما فيه؛ لكن، هناك بعض المواضيع تحمل في طياتها اشتراطات أكثر من تخصص. فمثلا: سؤال الديمقراطية في الفكر الديني، يستلزم البحثُ فيه القراءةَ المتعمقة في الفكر الديني، وفي الوقت نفسه، القراءة المتعمقة في الفكر السياسي. وإذا كان ثمة قارئ غير معني بهذا السؤال أصالة، فيكفيه أن يقرأ أهم ما كُتب في هذه المسألة تحديدا، مثل كتاب: (الديمقراطية في الفكر الإسلامي المعاصر) ل"عبدالرحيم العلام"، وكتاب: (حدود الديمقراطية الدينية) ل"توفيق السيف"، وكتاب: (الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي) لمجموعة باحثين. فهذه بحوث مُوثّقة في هذا المجال، بحوث/كتب لا يستغني عنها الباحث المتخصص، وتغني القارئ الحر الذي يجد نفسه أكثر في اهتمامات فكرية أو إبداعية خارج ميدان هذا السؤال. ويدخل تحت هذا السؤال: ماذا أقرأ؟ صيانة العقل من الإنتاج الرديء؛ بالاختيار الدقيق الذي ذكرناه سابقا. فليس كل ما أصبح سوادا في بياض يستحق القراءة؛ حتى لو انطوى بعضه على فوائد طفيفة أو خفيفة، فالعبرة في النهاية بمستوى الفائدة مقابل الجهد/الوقت/المال. القراءة ليست عملا محايدا، نحن لا نضع ما نقرأه على سطح الذاكرة، ولا على رصيف العقل. القراءة عملية معقدة، تتداخل فيها كثير من العوامل الملحوظة وغير الملحوظة، وهي جدلية/تفاعلية بطبعها، فحتى ما تقرأه، كارها له/رافضا له، تستبطنه بالضرورة على مستوى معين من مستويات الاستيعاب؛ فيدخل في صناعة عالمك الفكري والروحي. إن القراءة هي للروح وللعقل أشبه بالغذاء للجسد، فكما أن بعض الأطعمة يحتوي على أهم العناصر الغذائية التي تُوفّر للجسد طاقة وحماية، فكذلك هي الكتب، وكما أن بعض الأطعمة يتضمن كثيرا من الأضرار على المستوى القريب والبعيد، فكذلك هي بعض الكتب. لا يمكن أن أتسامح مع بعض الأطعمة بدعوى أنها لا تخلو من فائدة، فحتى أشد الأطعمة ضررا، كالحلويات المشبعة بالسكريات والدهون والنكهات المصنعة، لا تخلو من فائدة جسدية أو روحية/مزاجية/نفسية، لكنها رغم ذلك، يجب أن تبقى محظورة لمن يريد الحفاظ على صحته البدنية؛ فضررها الكبير، لا يفي بعائدها الإيجابي القليل. أخيرا، يأتي السؤال الثالث: كيف أقرأ؟ وهذا سؤال يجهله أو يتجاهله معظم الذين يعشقون أو يتعشّقون القراءة. يغيب عن كثيرين أن القراءة قُدرات ومستويات، بل وفنون، وليست كل قراءة قراءة، وليس كل من قرأ قرأ حقيقة!. وقديما قال حكيمنا الأكبر/المتنبي: "ولكن تأخذ الآذان منه على قدر القرائح والعلوم" فالقدرات الاستيعابية=القرائح، والمخزون الثقافي/العلمي= العلوم، تُحدّد أية قراءة أضاءت معالم النص، فمثلا كتاب: (مدخل إلى فلسفة العلوم) ل"محمد عابد الجابري" الذي ألّفه قبل أربعين عاما/عام1976م والذي حاول فيه تبسيط هذا العلم قدر المستطاع/إلى أدنى درجة ممكنة، إلى درجة أصبح بسببها رائجا، هذا الكتاب إذا كان قد قرأه عشرة آلاف قارئ في طبعاته المتعددة، فهل يعني هذا أن كل هؤلاء قد استوعبوه؟ وإذا كان كثيرون استوعبوه، فهل استوعبوه بمستوى واحد، هل يعني - مثلا - أن "يمنى طريف الخولي" المتخصصة في هذا المجال، والتي أصدرت فيه كتابيها: (فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية)، و: (فلسفة العلم في القرن العشرين)، قد قرأته/استوعبته كما قرأه/استوعبه قارئ لم يقرأ من قبل في فلسفة العلوم حرفا واحدا؟، هل تفهم منه مثلما يفهم أي قارئ تراثي تقليدي لا يعرف شيئا عن الفلسفة، فضلا عن أن يعرف شيئا عن فلسفة العلوم؟ أيضا، آلاف القراء قد قرأوا كتاب: (نقد العقل العربي) للجابري، ومن المؤكد أن الباحث في الميدان التراثي والفلسفي: حسن حنفي قد قرأه أيضا مثلما قرأوه، فهل تستوي قراءة حسن حنفي مع قراءة قارئ عابر لم يقرأ في أمهات التراث كتابا واحدا، فضلا عن أن يقرأ في منهجيات النقد والتحليل؟ إن القراءة الحقة ليست أن تمر بعينيك على السطور؛ فتقرأ أبجدياتها. هذا مستوى أبجدي حِرَفي بدائي من القراءة، يُجيده كل أحد، كل من "يفك الخط". النص/الكتاب هو كالعيّنة في معامل التحليل. بعض معامل التحليل فقيرة في أجهزتها وفي كوادرها؛ فلا تستطيع أن تكتشف إلا عددا محدودا من الفيروسات والميكروبات، بينما بعضها الآخر متطور، ومن ثم يستطيع أن يكتشف في العينة نفسها آلاف الظواهر التي لم تخطر على بال. وكما هو الأمر في معامل التحليل الطبية، كذلك الحال في معامل التحليل الفكرية المتطورة التي تسكن تجاويف أدمغة بعض البشر، والتي تمارس مستويات من القراءة فوق المعتاد، فتستطيع اكتشاف ما لم تكتشفه القراءة التقليدية التي لا تتجاوز ظواهر المكتوب. إن القراءة الاستيعابية، القراءة الإيجابية، هي إعادة خلق للنص، هي تأليف آخر على التأليف المكتوب؛ يتم بواسطة استثمار أكبر قدر من مناهج القراءة والتحليل؛ وباستحضار عوالم المقروء السابق لحظة القراءة التفاعلية، التي تتضمن بالضرورة توصيل النصوص ببعضها، وتصحيحها والتصحيح بها في آن، وعقد مقارنات وموازنات ومحاكمات، مع مواشجة كل ذلك بالتجارب الشخصية والعامة في صورة واعية أو غير واعية؛ ليَتَكّون من كل ذلك الفعل المُركّب تأويل مركب، تأويل حيّ، تأويل نامٍ، يشتغل وعياً حتى بعد انتهاء زمن القراءة الفيزيائي. 1765