تعد الحرف والصناعات اليدوية هي أحد أهم مسارات برنامج خادم الحرمين الشريفين للعناية بالتراث الحضاري، والذي تعمل على تنفيذه الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، حيث إقر البرنامج ووافق عليه مجلس الوزراء للمحافظة على التراث الثقافي الوطني ورعايته والتوعية بدوره الاقتصادي والحضاري والتعريف بمكوناته الأصيلة محلياً ودولياً. ومن الحرف التي تحضى باهتمام ومتابعة البرنامج الوطني للحرف والصناعات اليدوية "بارع"، حرفة "الحياكة" وهي إحدى الحرف وثيقة الارتباط بالتراث الوطني للمملكة، وحين نتحدث عن الحياكة نجد أن حياكة المشالح أو ما يعرف محلياً ب"البشوت" فنحن نتحدث عن الأصالة والأناقة في الوقت نفسه، حيث يمثل هذا الرداء لمرتديه هيبة لا يمكن تجاهلها، وهو يحمل في طياته الكثير من قيم الاحترام والتقدير لمكانة الشخص ولدوره في المجتمع أو تأثيره بين الناس، وعند التعرف على صناعة هذا المشلح عن قرب، ستجد أغلب المحترفين بحياكة البشوت من أبناء "الأحساء" التي اشتهرت بهذه الصناعة. أحمد الناصر هو الحساوي الذي لا يمل من تكرار الشرح عن أدق التفاصيل في صناعة البشوت، فهو يمارس هذه الحرفة على مدى ستة عقود من الزمن تقريباً، ومازال يثق بأن جودة عمله تسير في اتجاه متصاعد لم تؤثر عليه السنين إلا بمزيد من الخبرة الذهنية والمرونة اليدوية، حيث يقول: "بدأت أنسج خيوط البشوت منذ أن كان عمري 7 سنوات والآن أبلغ من العمر 66 سنة، وقد بقيت مشاركاً دائماً في الجنادرية على مدى السنوات العشرين الماضية لتعريف الناس بهذه المهنة". وتحدث عن شهرة بشوت الأحساء أكثر من غيرها ويرجعها إلى "جودة الشغل ونوعية القصب المستخدم" ويؤكد على أن شخصيات اجتماعية مهمة تفضل استغلال زيارتها للمنطقة ليس فقط من أجل الحصول على تمر الخلاص الشهير، وإنما كذلك للبحث عن البشوت الفاخرة أو ما يعرف ب"الزري الحر" حيث تتنوع طلباتهم بين "الدقة الملكية" و"الدقة الحديثة" وغيرها. سعر كيلو القصب من 700 إلى 2300 ريال وبينما يمسك بإبرته ويغزلها بإتقان داخل الطرف المذهب للبشت، يقدم الناصر تعريفاً موجزاً لكل من يسأله عن المواد المستخدمة بهذه الصنعة، فيخبرنا أن القصب كان يستورد في الماضي من الهند،ومن ثم أصبح يأتي من فرنسا وألمانيا حيث يعد الألماني هو الأفضل بحسب العم الخبير أحمد الذي يعطينا معلومة مهمة قد لا يعرفها البعض، فيقول: "مع ارتفاع الذهب الخالص يرتفع سعر القصب، فهو مرتبط به ومشتق منه، كان سعر كيلو القصب 700 ريال، وارتفع إلى 1500 حتى وصل حالياً إلى قرابة 2300 ريال". ولأن هذا التوضيح يقودنا إلى فكرة نمطية ارتبطت لدى الناس بأن بعض البشوت تصل إلى أسعار فلكية، فقد سألنا الصانع العريق عن هذه الفكرة فأجاب: "لا يمكن أن نقول إنها فلكية أو مبالغ فيها كثيراً كما يرى البعض، هناك فرق بين بشت وآخر، الدقة -النقشة- أحياناً تكلف أكثر، بل يمكن أن نقول إن أسعار البشوت -وحتى الفاخرة منها- في انخفاض حيث إن الملكي مثلاً كان سعره ما بين 5 - 6 آلاف ريال، والحين هو ب2 - 3 آلاف ريال، أما أفخم بشت على الإطلاق، والمسمى "أوفر ديلكس" فسعره يصل إلى 8 آلاف ريال". وإذا اتفقنا على أن الوقت يمضي سريعاً بينما نقوم بالعمل الذي نحبه، فإن العم أحمد يؤكد لنا هذه الفكرة بينما يعطينا مقاربة زمنية لفترة صناعة البشت الواحد، حيث يعتمد هذا على تخصيص الساعات في اليوم الواحد، فإذا كانت الجلسة مثلاً من الصباح حتى المغرب، فهذا يعني أن البشت سيكون جاهزاً بعد 8 إلى 9 أيام، أما إذا تم تخصيص ساعات أقل في اليوم فهذا يعني مزيداً من الوقت لاكتمال البشت. "هذي شغلتي وماعندي شغلة غيرها" يقولها أحمد الناصر بهذا النحو الحاسم، فيما يتحدث بشكل مرح عن تعليقات أبنائه الذين يتخوفون من تأثير هذه الصنعة على مستوى الإبصار لديهم، وإن كان يرى أن التركيز بين الزري والإبرة مهارة خاصة لا يتقنها الجميع، ويضيف: "هناك شباب يتعلمون هذه الصنعة برغبة كبيرة، وهناك من يراها متعبة وهذا طبيعي، ولكني أشجع كل المهتمين بتعلم هذه الصنعة، فهي تراث من الماضي، ومشروع ناجح في هذا الوقت". وفي جانب متصل، يتحدث العم أحمد عن حرفته اليدوية الأخرى في صنعة الملابس النسائية حيث اكتسبها من والدته التي كانت تصنع ثياب المسرحات والعرايس والقرقيعان وغيرها، فقد اقترحت عليه أن يتعلمها باعتبارها قريبة من صناعة البشوت وتستخدم المواد نفسها تقريباً، كما يخبرنا عن مدى الفائدة المادية التي تعود على العاملين في هذه الصنعة، ويشير في ذلك إلى محله القائم حالياً في "القيصرية" حيث تأتي الطلبات بشكل متزايد، وتصل بعضها إلى 50 إلى 70 بشتاً دفعة واحدة. صناعة البشوت يدوياً لاتزال مطلوبة Your browser does not support the video tag.