تصوروا لو أُنشئت محاكم عسكرية أو مدنية، تقتضي بإخراج مجرمي عصور التاريخ من حُكام أو أصحاب سلطة، وأصدرت أحكاماً بالإعدام تلبية لرغبة شخص أو مذهب؟ مثل هذه الواقعة حدثت قبل عدة أيام في الكوفة، حيث تم إحضار عبدالملك بن مروان، وقُدِّم للمحاكمة على ضوء قتله زيد بن علي، وسط حضور قضاة وشهود، ومحامين، وصدر الحكم بشنقه!! هذه ليست من "الكوميديا السوداء" بل حقيقة تناقلتها الوسائط التقنية الحديثة، وبصرف النظر عن الغاية في مداعبة عقول العامة وتذكيرهم بوقائع تاريخية، وإنما كيف انصرف عقل من أعدوا هذه المسرحية، ونسوا أنه بدلاً من نبش ليالي التاريخ السوداء والبيضاء، الارتقاء بوعيهم وباحتياجاتهم لمستقبلهم، وهذا يذكرنا بمحاكمات المهداوي بهزليتها، حين أصدر حكمه على آخر وزير داخلية في العهد الملكي المرحوم (سعيد القزاز) بالإعدام، فرد القزاز على المهداوي: "سأُشنق لتطل قدماي على رؤوس لا تستحق الحياة"!. إذا كان القصد محاكمة التاريخ بتداعياته الشاملة، فهذه تحتاج إلى وقفة عربية من مؤرخين عرب وأجانب تُحاكم كل عصر بأفكاره وحوادثه، وبنظرة شمولية مستقلة وموضوعية، لا انتقاء جزئيات وإخضاعها للمساءلة وإصدار الأحكام، لأن تاريخنا كأي ماضٍ أعطي هالات تصوره بالمثالي، أو تحط منه ولا ترينا إلا الدماء واللهو ونهب مقدراته وتزييف شخوصه أو وضعهم في منزلة الملائكة، وهذه مشكلة أزلية لمن كتبوه بظروف زمنهم، ولذلك إذا كنا نريد بناء مستقبل عربي حقيقي أن نصحح تاريخنا على ضوء ما كان وبنقد يتسم بالعقلانية، ولأن ما نعيشه الآن من آثار الدمار للربيع العربي يتجاوز ما قرأناه في عصور سابقة، ولن تنصفنا أجيالنا اللاحقة إذا وثقنا الماضي على ضوء الحاضر، بحوادثه وشهود عصره ومسبباته.. أرضنا العربية تُعد شاهداً على حضارات سابقة للتاريخ الإسلامي بمصر والجزيرة العربية، والشام، والعراق، وشمال إفريقيا ولا يجب أن يفصل زمن عن آخر طالما البيئة والإنسان هما عمادهما، ولعل واقعة الكوفة تعطينا نموذجاً لحضور الماضي ليس بالذهنية العامة، بل بذهنية القضاة التي وضعت على مشرحتها حادثة واحدة، لأننا لو استقصينا الجريمة في مختلف العصور لتعددت التسميات من سفاحين، إلى مجرمي حروب، وعرقيين وغيرهم، فسروا أفعالهم وفقاً لقناعاتهم، وقد تُزيف التواريخ - كما حدث أثناء الاستعمار الغربي أو ما قبله - حين أتلفت شواهد لحضارات وتواريخ أو نهب للموروثات، وهي طبيعة الغالب للمغلوب.. تاريخنا العربي جزء من ماضٍ يثير الجدل، وكلٌّ يفسره وفق منطلقاته الدينية والقومية، لتذهب الحقيقة المنصفة بدوائر المؤرخين، وهناك من أظهر أن العرب أمة غازية فرضت لغتها ودينها على شعوب لا تنتمي لها جذراً، ولا أصولاً، وبالتالي إذا كنا نريد إنصاف تاريخنا وإعادة كتابته بمفهوم النقد، لا إضفاء المثاليات عليه، أن نقف منه محللين لا مهللين.. Your browser does not support the video tag.