كل عصر يحاكم ما قبله من منظور واقعه الراهن، وتعاملنا مع تراثنا العربي تحول إلى إشكال لم ولن نخلص منه، طالما الفقهاء، والعلماء، والاجتماعيون والفلاسفة لا تزال تدور حولهم الشكوك بالرفض، ومخالفة قواعد الإسلام، أو الكفر والزندقة، مع أنهم ولدوا وعاشوا وفكروا في غير عصرنا، ولذلك لم يرحم حتى من ذهبوا ضحايا سلطة الحكام أو فتاوى القتل والتعزير والمصادرة.. الأمم الأخرى عرفت كيف تكتب تاريخها على ضوء مصادر تراثها بروح المؤرخ والناقد المحايد، ومع سطوة الكنيسة، في حرق العلماء باعتبارهم هراطقة، وكذلك الفلاسفة، إلا أن هذه السطوة انتهت بعد فصل الكنيسة عن السلطة الزمنية، لكن إذا كنا نقرأ أن لكل زمن أحكامه وتطوره التاريخي والثقافي في سياق اجتماعي خاص، فنحن الآن في زمن التطور الجديد الذي فاق كل العصور، ولذلك لا يجب الاستمرار في محنة الفكر العربي أن يفسر كل التراث من رؤية أحادية الجانب ترفض وتقبل وفق منظور ديني أو تاريخي، بل الأخذ بمعايير من سبقونا بتقويم تراثهم على ضوء التحليل الشامل العلمي والتاريخي.. فنحن بناة حضارة وانتشار ديني وفكري، ولغوي فاق ما قبله من عصور، وقدمنا لغيرنا تراث النهضة الغربية ويكفي ما عد ثورة في علوم الرياضيات باكتشاف العرب للصفر، ولذلك لم يكن تراثنا خالياً من العباقرة في كل المجالات، لكن نظرة الريبة لازمتنا من كل نتاجنا، وحتى المستشرقين ممن درسوه وضعوه في ميزان المكتسبات العظمى في النهضة العالمية، بل ولعل فكر الماضي كان أكثر إشراقاً من حاضرنا اليوم، حتى أن دارساً لابن خلدون، قال لو وجد في زمن الزعامات العربية الراهنة لحورب سياسياً وحكم عليه بالإعدام، فما بالك بالمفكرين والفلاسفة والشعراء وحتى الفقهاء من اختلفنا حولهم وناهضناهم.. ويكفي نظرة بسيطة لرؤية المدن التاريخية، بغداد، ودمشق والقاهرة، والأندلس، كيف صاغت تلك المدن أسلوب حياتها حتى أن بيت الحكمة في بغداد ما زال إشعاعه قائماً حتى اليوم، لكن في الغرب وليس لدينا، وكيف أن احتواء القبيلة بتناقضاتها وتحولها إلى مجتمع حضاري يندرج ضمن قوانين وشرائع تلك الحكومات بما فيها دمج المذهبية والطائفية، وجلب العلماء وتوظيفهم كان جزءاً من شخصية تلك الحضارة الكبرى، والغريب أن ذلك المجتمع الذي فتح الأبواب لجميع العباقرة وجعلهم علماء يبتكرون ويؤلفون ويدرسون، صرنا نعيش بالاتجاه المضاد، أي تصدير كفاءاتنا، والمهمة غير سهلة، فرغم المجامع العلمية والتراثية والهيئات التي تريد إثراء اللغة العربية، إلا أنه لا يوجد في وطننا العربي من يريد رفع غطاء المنع عن تراثنا الكبير، حتى أن ما يوجد في متاحف ومكتبات العالم الخارجي من مقتنيات ومخطوطات، تفوق ما يوجد في الوطن والعالم الإسلامي، وكل ما جرى من تحقيق للكتب بمختلف اختصاصاتها، كان جهداً فردياً، وهذا جزء من تقصير تلام عليه الحكومات وجامعاتها، وعلماؤها، لأن تخصيص ولو جزء من الفوائض المالية لهذا الغرض الحيوي والضروري، كان بامكانه حفظ هذا التراث ودراسته على ضوء الحاضر بانفجاره العلمي والحضاري.