من القصص القديمة التي لا تزال عالقة بذاكرتي، قصة أحد جيراننا المعروف بشخصيته المحبوبة على مستوى الحيّ، والذي كان أشدّ الجيران حرصاً على مواصلة الآخرين وحلّ مشكلاتهم ومدّ يد العون لمساعدتهم عند الحاجة وبدون حاجة أحياناً، لا يفوّت اجتماعاً أو مناسبة إلا وتجده أول الحاضرين وآخر المغادرين، سواءً تمّت دعوته أم لم تتم، بل ربما كان أكثر أهل الحيّ في إقامة الولائم في شتى المناسبات، وكان بيته أشبه ما يكون بالمقرّ الدائم لجلسات (العصريّة) التي تتم فيها دعوة الجيران للحديث معهم حول كل شيء، لقد كان باختصار ذا سمعة طيبة في مجال الكرم، والمروءة، والفزعة، وكان يبدو حريصاً على صورته الاجتماعية كحرصه على الحياة!! بينما كان يخفي وجهاً آخر ينمّ عن حقيقته وصفاته الأصلية التي لا يعرفها الكثيرون، وكنّا بحكم مجاورة بيته والعلاقات العائلية بيننا وصداقتي لأبنائه من ضمن أولئك القلائل الذين يعرفون جيّداً حقيقته الصادمة، التي تُخفي في طيّاتها وجهاً بشعاً وطباعاً كريهةً تظهر جليّاً في تعامله اليومي مع زوجته وأولاده، حيث كان معهم شخصاً آخر تماماً، عنيفاً ومتوحشاً تصعب معاشرته، على الرغم من طيبته ولطافته المعهودة مع الآخرين، لا يتوانى عن سبّهم بأقذع الألفاظ ولا عن ضربهم جميعاً ابتداءً من زوجته وحتى أصغر أولاده، بلا سببٍ ولا رادع، على الرغم من طاعتهم لأوامره، ومن تفانيهم في خدمته، إلى درجة أنهم كانوا لا يرونه إلا كالوحش الكاسر الذي لا يعرف الرحمة وذلك خلال الساعات القليلة التي يقضيها معهم. وبالإضافة إلى ذلك فقد كان بخيلاً معهم لا ينفق عليهم ولا يلبّي أدنى احتياجاتهم على الرغم من كونه ميسور الحال وكريماً مع من هم خارج البيت، وكان أبناؤه يشتكون منه، ويقصّون عليّ جزءاً من أهواله وفظائعه معهم والتي كنّا نسمعها ونطّلع عليها بأنفسنا كجيرانٍ مقرّبين. وتمرّ الأيام والأعوام لأكتشف لاحقاً أن ذلك الجار كان ولا يزال يمثّل نموذجاً حيّاً في مجتمعنا وشريحةً لا يُستهان بها من الآباء الذين يعيشون بوجهين.. وجهٌ مصطنع لا يهمّه إلا سمعته وصيته الزائفين أمام مجتمعه، بينما الوجه الحقيقي مع أهله وعائلته، الذين هم محطّ المسؤولية أمام الله وأمام ضميره والذين لا يملكون تلك السطوة المخيفة مثل المجتمع. ولنا أن نتساءل عن علّة هذه المفارقة الأخلاقية لدى هذا النوع من الآباء الذين لا يعانون عادةً من اضطرابٍ في الشخصية يمكن تشخيصه وعلاجه، بدليل قدرتهم على الحياة بشكلٍ طبيعي ومحبّب أمام المجتمع على مرّ أعمارهم، ولذلك أرجّح أن معضلتهم هنا أخلاقية واجتماعية بالدرجة الأولى. كما يحقّ لنا أن نتخيّل فقط أي نوعٍ من التربية يمكن أن يوفرها هذا النوع الظالم من الآباء؟ وأي بِرٍّ من الأبناء يتوقعون أنهم سيحظون به في نهاية المطاف؟ وأي مخرجاتٍ سينتظرها المجتمع من هؤلاء الآباء عندما يكبر أولادهم ويصبحون أفراداً مستقلّين ونواةً مستقبلية لبيوتٍ وعوائل جديدة، إلا من رحم ربك منهم. Your browser does not support the video tag.