قد تكون إحدى مشكلات العقل الجمعي العربي، هو أن فاهه يظل مفتوحاً، مشرعاً أمام الممكن من قول، لا يستطيع مقاومة إغراء الكلام، أو شهوة الثرثرة!. الحديث المتواصل في المجالس، المؤتمرات، اللقاءات المتلفزة، وسائل التواصل الاجتماعي، والنميمة البغيظة في مقاهي الشيشة في ليالي الشتاء الطويلة. هذه الرغبة الدائمة في الإفصاح، تجعل المرء يقع في كثير من الأخطاء، وتقدم محبي الكلام لجمهورهم دون أقنعة، أشخصاً محبين للظهور، لا يتوقفون عند مسألة دون أن يكون لهم رأي فيها، ولا يمكنهم قول: لا أعلم!. هنا تكمن المشكلة الأصلية، أن كثيراً من موضوعات الثرثرة يتم إبداء الرأي فيها دون علم، أو دراسة، أو سؤال. ما يعني أن ما يتم تعميمه من أحاديث، ما هي إلا ضرب من الهراء المنمق، الذي يتم إخراجه في صورة مبهرجة، مضللة، تصنع وعياً زائفاً، وتعمل على ترسيخ ثقافة شعبوية قوامها الجهل و"الهياط"!. كثرة الثرثرة تقود حتماً إلى الخطأ، التنميط، التسطيح، والتكرار. وكما قال محي الدين بن عربي "التجلي المتكرر في الصورة الواحدة، لا يعول عليه". إذ إن عدم القدرة على السكوت، تفضح كوامن أصحابها، وما يمتلكون من مخزون معرفي متواضع، لن يلبث أن ينتهي، مع استمرار الهدر المتواصل. الحماسة، هي واحدة من الثيمات التي يعمل عليها عشاق الأحاديث المتواصلة، لأنها تدغدغ المشاعر، وتحرك غرائز الجماهير. هي أسلوب أولي، بدائي، يخاطب الكامن فينا من توحش. من هنا، قال إيميل سيوران "امنحوا الشباب أملاً في مجزرة، أو فرصة لارتكابها، وسيتبعونكم بلا تبصر". سيوران في جملته هذه، يختصر روح الحماسة والعنفوان لدى الشباب، وكيف أنه في تلك المرحلة العمرية كان مأخوذاً بتلك المقولات الحماسوية، التي تمجد القوة المطلقة، والاجتثاث، ودحر المختلف. وهي ما سعى أصحاب الأفكار الشوفينية والنازية لاستغلاها، تمجيداً لفكرة "العرق النقي"، وتفوق جنس بشري على الآخر. ثقافة "الهياط" و"البربرة" ترسخ زيف هذا التفوق، وإن كان بشكل بدائي، بسيط، لا يعمل على تأصيل معرفي له، وإنما عبر مخاطبة الغرائز التي تلامس القبيلة، الطائفة، المذهب، العرق، المنطقة، الجنس.. أي تلك الهويات الأولية الضيقة. وسط هذا الزخم من المواد الصاخبة، والخطابات الغرائزية التي اتخمت مواقع التواصل الاجتماعي، يبقى السؤال: هل هنالك إمكانية للتفكير بعقل هادئ، بارد، بعيداً عن الإكراهات والانفعلات؟. وهل هذا النمط من التفكير متعسر في مجتمعات عربية غارقة في العاطفية والشعاراتية، أم أنه فعل ممكن الحدوث إذا قرر الفرد، أو الجماعة ذلك؟. تبقى الإجابة رهينة برغبات أصحابها، وربما مصالحهم. إنما الأكيد أن التفكير العقلاني هو السبيل للخروج من أي مشكلة كانت، اجتماعية، أو اقتصادية أو سياسية، بل حتى تلك المشكلات الهامشية التي لا نعيرها اهتماماً.