إن الذي يفتح عينيه ستة على ستة، محدقاً في عيوب الناس محصياً لها يَتعَب هو جداً، ويتشاءم من الحياة والناس.. كما أنه يُتعِب (بضم الياء) المخالطين له، فهو كثير الزعل والعتاب، سيء الظن في الغالب، دائم التوجس والتقطيب بلا أسباب. إن طبيعة الصحراء والتصحر قد تشغل الناس بمشكلاتهم عن التدقيق في أخطاء الآخرين، ولكن الأمر يعود -أولاً وأخيراً- لطبيعة الإنسان: فالمتسامح طبيعة يجيد التغابي عن نقائص الآخرين، والتغاضي عن أخطائهم، وهو بهذه الطبيعة يريح ويستريح، فإن السعادة في السماحة، وإن القلق والشقاء والسخط في التشدد والحقد وانعدام الرضا، وقديماً قال الشاعر العربي: لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب ولا ينال العلا من طبعه الغضب ويقول الشاعر: من اليوم تعارفنا ونطوي ماجرى منا فلا كان ولا صار وقلتم ولا قلنا وإن كان ولابد من العتب فبالحسنى فبدْء صفحة بيضاء، حتى مع من أساء، يدل على طيبة القلب، ورجاحة العقل، وحب الناس، وفهم طبائعهم، والاستبشار بالخير، وتقديم الظن الحسن على السيء.. أتديبج وأنا ماني بدبوجة وأسهج العلم كني ما اتمعنى به قال رجل للخليل بن أحمد: * تعال نتعاتب! فأجابه: * بل تعال نتغافر.. أي يستغفر بعضنا الله عز وجل لبعض، ونتسامح ونتصافى، ونتغابى عن نقائصنا، ونتغاضى عن أخطائنا وعيوبنا، فكل بني آدم خطاؤون، وخير الخطائين التوابون.. والمتغافل المتغابي عن كثير من الزلات والأخطاء، من أذكى الناس، وأسعدهم، وأكثرهم سماحةً وسعةً أفق، ومعرفة بطبائع البشر، وهو يكره العناد والجدال، والتدقيق في كل ما يقال، ويغلب عليه حسن الظن مع الفطنة، وهو بهذه الصفات يرتاح ويريح من يعاشره.. أما الذي يحاسب على الصغيرة والكبيرة، ويعاتب على أي خطأ، ويتابع أي زلة، ويغلب عليه سوء الظن حتى يلوي أعناق الكلام لما يؤذيه، ويتوهم عدم الاحترام، فإنه يعيش على أعصابه، في توتر دائم ومزعج له، ولمن حوله، فيضجر منه الصديق قبل الجليس، وتنفر منه زوجته وأولاده، ويحبس نفسه في سجن من الشقاء والتوجس والوحدة.. (وألزم ما يكون التغافل والتسامح مع الأصدقاء لكثرة اللقاء)، قال بشار: إذا كنت في كل الأمور معاتباً... صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه فعش واحداً أو صل أخاك فإنه... مقارف ذنب مرة ومجانبه إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ... ظمئت، وأي الناس تصفو مشاربه) ومن حكم الإمام الشافعي: (الكيس العاقل هو الغطي المتغافل).. ويقول أبو فراس الحمداني: يجني الخليل فاستحلي جنايته حتى أدل على عفوي وإحساني إذا خليلي لم تكثر إساءته فأين موضع إحساني وغفراني؟ يجني علي وأحنو صافحاً أبداً لا شيء أحسن من حان على جاني ويقول ابن مسلم - وهو قريب من قول بشاره: من الراي سامح صاحبك لا تعاتبه إلى زل أو ابطا بشيء تراقبه خذ ما تيسر منه واستر خماله إلى عاد نفسك في ملاماه راغبه فان كنت في كل المشاجي موادب رفيقك ما تلقى الذي ماتوا دبه فمن لا يسامح صاحبه عند زلة خلاه صرف البين من غير صاحبه ويقولون: (التغافل نصف الحكمة) و(.. تسعة أعشار الحكمة) من باب الإعجاب بالتغافل وما يحمله من قيم التسامح ورجاحة القول.. وهو فعل مقصود وبعكس الغفلة.. وتقول العرب (التمس لأخيك ألف عذر) و(لعل له غدراً وأنت تلوم).. وللشاعر: لاجتك زلة من رفيق توده رفيقك اللي ما تعدد مزاياه ادمح له الزلة وحذار تضده ودور على عذر يعذره وتلقاه لا تشيك نفسك والجبل لا تنهده واحذر تكون اللي نقل داه برداه ويقول الشاعر الشهير محمد بن عبدالله العوني : أتديبج وأنا ماني بدبوجة وأسهج العلم كني ما اتمعنى به أما السفهاء والسخفاء فإن العقلاء لا ينزلون إلى مستواهم.. يعتبرونهم غير موجودين.. ولقد أحسن الشاعر شمر بن عمرو الحنفي حين قال: ولقد مررت على السفيه يسبني فمضيت ثمث قلت لا يعنيني غضبان ممتلئاً علي إهابه إني وربك سخطه يرضيني!