ما تغنّى العرب بشيء من الشيم كما تغنوا بالشجاعة والكرم والحلم. وفوق أن هذه الخصال نبيلة في كل زمان ومكان، فإن بيئة العرب جعلتهم يدركون جمالها ونبلها أكثر من سواهم من الأمم، في الأغلب، خاصة أنها - بالنسبة لحياتهم - من الضرورات لا الكماليات: فبدون الشجاعة يهلك الإنسان في الصحراء القاسية والتي كثير من سكانها - قديماً - أشد منها قسوة، وذلك قبل أن يسمو بهم الإسلام الحنيف، ويؤلف بين قلوبهم، ويجعلهم عباد الله إخوانا.. وحتى بعد الإسلام فإن صحراء العرب تعود أحياناً لعهدها القديم من السلب.. والنهب.. والغارات.. وسيادة قانون الغاب. فإلى عهد قريب، وبالتحديد قبل أن يقوم الملك العظيم عبدالعزيز ورجاله المخلصون، بتوحيد المملكة تحت راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ويتم تطبيق الشرع المطهر، وتأليف القلوب، وتحويل طاقة القبائل والفرسان إلى هذا التوحيد التاريخي، والتآخي الكريم، والتعاون على الخير، قبل ذلك عاد وسط الجزيرة العربية إلى عهده القديم، من سلب.. ونهب.. وغارات وعداوات.. ساهم في تأجيج ذلك شح الموارد، وسيادة الجهل بالدين الحنيف، وقساوة الصحراء، وضراوة رجالها وسباعها على السواء. في ظل ذلك كله تبرز قيم الشجاعة والكرم والحلم كضرورات وجود، وأسباب بقاء، خاصة أن العرق العربي فيه أصالة ونقاء، وأن الخير لا يزال مذخوراً في قلوب الرجال والنساء، وأن موروث العرب - القديم والحديث - يحث علي مكارم الأخلاق، والحكمة في مواجهة الشر والأشرار. الخلاصة هنا أن الشجاعة صرورة وجود، وأنه لو لا الكرم والكرماء لهلك كثيرون في متاهة الصحراء حيث لا فنادق.. ولا مطاعم.. ولا موارد ثابتة يُعْتَدُّ بها ويعتمد عليها بعد الله جلَّ وعزّ. وبما أن السلب والنهب والغارات كانت موجودة، وعادت جذعة قبل توحيد المملكة، يضرمها السفهاء، ويشعلها الممتلئون جهلاً، فإن ذلك كله كان مدعاة لثورات الغضب، وإذا ثار الغضب زاد اشتعال الفتن والحروب وامتداد النيران لتحرق الجميع، هنا برز (الحلم) كصفة رائعة وفروسية راقية، الحلم عند قدرة، فسار التغني به، والدعوة له، والفخر بالتحلي به، خاصةً أنه - أي الحلم - من الصفات النادرة في البشر عامة، فإن الأصمعي يقول: (لا يكاد يوجد عشرة رجال إلاَّ وفيهم أكثر من شجاع وكريم..ولكن يوجد مئة رجل لا تجد فيهم الرجل الحليم..) أمَّا موقف الإسلام الحنيف من الحلم فإنه معروف مشهور، فقد عده من مكارم الأخلاق، وأثنى على أصحابه كثيراً. في الحلم يقول الشاعر: والحلم يطفئ عنك كل عظيمة كالماء لا تبقى به النيران فالنار لا تطفأ بالنار، بل بالماء، والحلم كالماء الزلال ليس عذب المورد فقط بل ضرورة اجتماعية، وهو لفظ يشمل العقل، فالأحلام هي العقول، والعاقل يحرص على أن يكون حليماً لا أحمق.. ويرى المتنبي أن الحلم إذا لم يكن في طبع الإنسان فإنه صعب الاكتساب: وإذا الحلم لم يكن في طباع لم يحلم تقادمُ الميلادِ لكن حاتم الطائي يرى أن الحلم يكتسب بالإرادة والعقل والتحلم: تحلم عن الأدنين واستبق ودهم ولن تستطيع الحلم حتي تحلما لذي الحلم قبل اليوم ما تُقرع العصا وما عُلِمّ الإنسانُ إلاَّ ليعلما فالحلم كالعلم يكتسب بالتدرب والتدبر وقوة الإرادة، وإلى هذا نميل فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس الشديد بالصُّرُعَة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) متفق عليه. والصرعة هو القوي الذي يصرع الناس، فأقوى منه الذي يملك نفسه عند الغضب (أي الحليم) وبالتالي فإن هذه الخصلة الثمينة (الحلم) فروسية من النواع الراقي، فإن الإنسان إذا ذكر الله عز وجل فتحكّم في غضبه، وفضَّل الحلم على الحنق والحمق، قد راض نفسه أرقى رياضة. (الرفق يرادف الحلم في المأثور الشعبي..) إذا قالوا في مأثورنا: (أرفق به، أو أرفق عليه..) فهم يعنون كن حليماً معه، فالرفق من مرادفات الحلم في مأثورنا الشعبي، والخصلتان ممتزجتان كالسمن والعسل، وللتعبير الشعبي أصل، قال المتنبي: إذا قيل رفقاً قال للحلم موضعٌ وحلم الفتى في غير موضعه جَهْلُ فاستخدم لفظ (الرفق) بمعني (الحلم) كما يفعل الشعب، والرفق عام والحلم خاص، فالأول يشمل الحلم والتدبر وينطبق على المحسوس والمعنوي، أما الحلم فهو ضد الغضب، وهو يلد فضائل أخرى منها السماحة والحب والبعد عن الحقد ويدل على رجاحة العقل،، قال محمد بن مسلم: فمن لا يسامح صاحبه عند زلّه خلاّه صرف البين من غير صاحبه كما أن التغابي والتغافل جزء من الحلم ومن التدرب عليه، وقد قالوا (نصف الحكمة في التغافل) وقال العوني: أتديبج وأنا منيب ديُّوجه واسف العلم كنِّي ما اتمعنى به