يتساءل الباحث العربي المقيم في فرنسا: هاشم صالح، على هامش حديث له على تعليق الباحث الفرنسي (مارك جوفروا) على كتب ابن رشد الثلاثة: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، تهافت التهافت، عما سيحدث لعالمنا العربي والإسلامي لو أتيح لمنهج ابن رشد في إصلاح الفكر الديني أن ينتصر. هل كان سيشهد ظواهر من نوعية ابن لادن وسواه في الوقت الحاضر؟ وهل كنا سنشهد كل هذه الكوارث التي شوهت سمعتنا شرقا وغربا؟ ومنهج ابن رشد الذي سيمنع، لو قُدِّرت له السيادة في أرض الإسلام، كوارث التزمت والتشدد والانسداد التاريخي والتطرف الديني، يقوم على فلسفة ترنو إلى تحقيق المصالحة بين الحكمة والشريعة، أو بين الدين والفلسفة. وبعبارة واضحة: فهو مشروع لدرء التعارض المتوهم بين العقل والنقل. ولقد تمخضت محاولاته الفلسفية في ذلك الجانب، عن مشروع ضخم لإصلاح الفكر الديني في الإسلام، في جوانبه العقدية والفقهية والأصولية. وفي الجانب الفقهي خاصة، قام بربط الأحكام الفقهية بمقاصدها المصلحية التي لم تنزل إلا لتحقيقها. في ذلك المشروع توصل ابن رشد إلى معجزة فكرية في العصر الوسيط، إذ عرف كيف يوفق بين الشرع والحكمة، أو بين الدين والفلسفة كما نقول الآن. في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تئن تحت وطأة ضربات تعارض العقل والعلم مع ثوابت الفكر الديني المسيحي. فجاء ذلك المنهج الرشدي ليكون فصلاً تاريخياً مهماً في النهضة الأوروبية، عندما نقل الأوروبيون فلسفة ابن رشد، ابتداءً من محاولة القديس توما الإكويني في نقله للنموذج الرشدي في التوفيق بين الدين والفلسفة، مما سيؤدي، لاحقاً، إلى تشكل تيار تنويري هناك عرف باسم "الرشدية اللاتينية". وينطلق مشروع ابن رشد الإصلاحي، وفاً للدكتور: إدريس حمادي في كتابه: (إصلاح الفكر الديني من منظور ابن رشد)، معتمداً على ثلاث دعائم هي: الأسباب، والأغراض، والوسائل. ويتضح أن الأسباب التي دعت ابن رشد إلى الدخول في مشروعه الفكري الإصلاحي لا تخرج عن ثلاثة يراها، أي ابن رشد، بمثابة معوقات للتقدم الإسلامي المنشود. أولها: غياب المقاصد الشرعية في فكر مختلف الفرق الإسلامية التي تصارعت فيما بينها على"الحقيقة". حيث يقول في كتابه: ( الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة) ما نصه: " حيث حدثت فرق ضالة وأصناف مختلفة كل واحد منهم يرى أنه على الشريعة الأولى، وأن من خالفه، إما مبتدع وإما مستباح الدم والمال، وهذا كله عدول عن مقصد الشارع صلى الله عليه وسلم، وسببه ما عرض لهم من الضلال عن فهم مقاصد الشريعة". قلت: وهل تغير عصرنا عن عصر ابن رشد؟. إحقاقا للحق ووفاء لفيلسوفنا الكبير نقول له: لقد ضللنا إلى الآن على ما تركْنا عليه. فكل منا يكفر الآخر ويجعله مستباح الدم، لمجرد الاختلاف معه على تأويل بعض النصوص الدينية. وزيادة على ما كان في عصرك، فثمة من هم مجندون، أو، على الأقل، داعون لإقامة حد الردة على من جعلوه مستباح الدم لأنه نأى بنفسه عن تبني ما يتبنونه من رأي للطائفة أو المذهب! ثانيهما: غياب الاجتهاد. إذ لمح ابن رشد إقفال باب الاجتهاد اللازم لتكييف النوازل الجديدة بما يتواءم والمقاصد الشرعية. في مقابل حلول عصر الاجترار والتقليد والحفظ والتكرار والشروحات وشروح الشروحات:( العصر المدرسي الإسلامي!). وقد عبر عن هذا الهم الذي جند له مشروعه الفكري بقوله: "هاهنا طائفة تشبه العوام من جهة، والمجتهدين من جهة. وهم المسمون في زماننا هذا بالفقهاء!". "وأنه إذا كان هناك فرق بينهم وبين العوام فهو أنهم يحفظون الآراء التي للمجتهدين فيخبرون عنها العوام!". مرة أخرى نتساءل: هل تطورت البنية الفقهية المعاصرة عما كانت عليه زمن ابن رشد؟، ربما لن نجافي الحقيقة إذا قلنا إنها البنية ذاتها، مع تضمينها، زيادة على ما كانت عليه، خلطة إضافية من التعصب الممقوت للآراء الفقهية والعقدية كنتيجة طبيعية لغياب حرية الرأي وما يستتبعها، بالضرورة، من إقفال لباب الاجتهاد! ثالثهما: ما يتصل بغياب المقاصد الشرعية عن أفق الفقهاء. وهو غياب أدى إلى كوارث مدمرة، ليس أقلها بناء أصول الفقه، منذ عصر الشافعي، على مجرد استثمار الألفاظ لاستخراج المعاني منها، ليكون اللفظ هو الأصل. رغم أن اللفظ ليس أكثر من مواضعة بشرية على معنى معين، مما يعني أن (الواقع) الذي وضع لأجله اللفظ هو الذي يجب أن يراعى عند استنباط المعاني. وهو وضع تنبه له أبو إسحاق الشاطبي في القرن الثامن الهجري، فأسس مشروعاً فكرياً تنويرياً قوامه: بناء أصول الفقه على مقاصد الشريعة، بدلاً من بنائه على مجرد استثمار ألفاظ النصوص للحصول منها على المعاني. مما سيؤدي إلى أن يكون الواقع هو الأصل عند استخراج معنى (مقصد) النص. لكن مشروعه هو الآخر توارى خلف مشروع الغزالي الذي كتبت له السيادة على حساب المشاريع التنويرية التي تتخذ من الإنسان مبتدأً ومنتهى حين التعامل مع النصوص الشرعية، عقدية كانت أم فقهية. هنا نجد أن مشروع ابن رشد لا يفتأ يركز على التلازم المنطقي والشرعي بين النص الشرعي والمصلحة الحاضرة للإنسان. وهو تلازم يعطي للنصوص خاصة في جانب المعاملات حضوراً منطقياً متماهياً مع ضرورات الزمان والمكان. فعندما ذكر حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي جاء فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواءً بسواء يداً بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد"، قام باستعراض أقوال أئمة المذاهب في (علة) تحريم هذه الأشياء الستة، ثم توقف، كما يقول الدكتور إدريس حمادي، عند تعليل الحنفية في اعتبار المكيل والموزون، على اعتبار أنه صلى الله عليه وسلم لما علق التحليل باتفاق الصنف والقدر، وعلق التحريم باتفاق الصنف واختلاف القدر، رأوا أن الكيل أو الوزن هو المؤثر في الحكم كتأثير الصنف، فقال أي ابن رشد : "إذا تُؤُمِّل الأمر من طريق المعنى ظهر، والله أعلم، أن علتهم أولى العلل، وذلك أنه يظهر من الشرع أن المقصود بتحريم الربا إنما لمكان الغبن الكثير الذي فيه، وأن العدل في المعاملات إنما هو مقاربة التساوي. ولذلك لما عسر إدراك التساوي في الأشياء المختلفة الذوات جعل الدينار والدرهم لتقويمها، أي لتقديرها. وأما الأشياء المكيلة والموزونة فلما كانت ليست تختلف وكانت منافعها متقاربة ولم تكن حاجة ضرورية لمن عنده أن يستبدل له بذلك الصنف بعينه إلا على جهة السرف، (أي الإسراف)، كان العدل في هذا إنما هو بوجود التساوي في الكيل والوزن إذ كانت لا تتفاوت في المنافع. وأيضاً فإن منع التفاضل في هذه الأشياء يوجب أن لا يقع فيها تعامل لكون منافعها غير مختلفة. والتعامل إنما يُضطر إليه في المنافع المختلفة. فإذاً منَع التفاضل في هذه الأشياء، أعني المكيلة والموزونة، علتان: إحداهما وجود العدل فيها. والثاني منع المعاملة إذ كانت المعاملة بها من باب الإسراف". وخفوت الاهتمام بربط النصوص بمقاصدها المصلحية أدى إلى وضع فقهي يعتمد في تفعيله للنصوص، المعاملاتية منها على الأخص ، إما على تثبيت الوسائل القديمة التي تغيأت من ورائها النصوص الوصول إلى المصالح المبتغاة منها، رغم ابتكار وسائل حديثة تؤدي إلى مقصد النص بشكل أفضل وآكد. وإما على القفز على مقصد النص بالاكتفاء بتطبيق ظاهر اللفظ فقط. فعندما ينص النبي صلى الله عليه وسلم على أن "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا"، فإن الهدف منه احترام عقود وتصرفات البيع وعدم تركها بلا ضابط، لا أنه يقصد التفرق المحسوس. لكن عندما يأتي من يأخذ بجانب التفرق المحسوس، فيغيب عن صاحبه لحظات لكي يقطع الطريق عليه بالتراجع عما ابتاعه أو اشتراه منه، فهو تفعيل منه لظاهر النص وترك لمقصوده. وعندما يذهب من يريد اقتراض شيء من النقد إلى من يقرضه ببيعه سلعاً معينة، أياً تكن تلك السلع، فيشتريها منه بمبلغ معين، ثم يقوم المشتري بتحريك السلع من مكانها إلى مكان آخر، كأن يحرك السيارة من مكانها إلى مكان مجاور، ثم يقوم ببيعها في الحال على من اشتراها منه بمبلغ أقل مما اشتراها به لحاجته للنقد، فذاك احتيال على مقصود الشرع الذي أراد تدوير السلع بين الناس وتحريك أدوات الاقتصاد، لا أنه قصد التحريك المحسوس لذاته. والضابط في مقاصد الشرع قوله تعالى في الآية الخامسة والعشرين من سورة الحديد: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط). والقيام بالقسط معناه، وفقاً لإمام المفسرين: أبو جعفر بن جرير الطبري، أن يعمل الناس بينهم بالعدل. ولا يمكن أن يعمل الناس بينهم بالعدل إذا كانوا يحافظون على وسائل تحقيق المقاصد على حساب المقاصد نفسها. أو إذا كانوا يطبقون ظواهر النصوص مقابل التغاضي عن المصلحة التي تغيأتها تلك النصوص.