الإمام أحمد بن حنبل اصطفى من بين (750) ألف حديث كانت تموج في الفضاء الفكري في القرن الثالث الهجري، ما يقارب 26 ألف حديث شريف فقط، وجمعها في مسند أحمد، ومن أسباب تضخم مدونة الحديث آنذاك تزامنه مع الفتنة الكبرى والصراع السياسي والمذهبي، وتكاثر المدلسين والوضاع، كالحديث الموضوع الذي انتشر مع ظهور الدولة العباسية (إذا رأيتم الرايات السود خرجت من قبل خراسان، فآتوها ولو حبوا فإن فيها خليفة الله المهدي.) ولم يسلم مسند الإمام ابن حنبل نفسه من الأحاديث الموضوعة، والتي حددها ابن الجوزي بثمانية وثلاثين حديثاً، بينما يرى الإمام الذهبي بأنها أكثر من ذلك، ويرجع بعض فقهاء الحديث هذا إلى أن ابن حنبل كان يلجأ إلى أسلوب العنعنة، تتبع أحوال الرواة (علوم الرجال) فقط، دون أن يعرض متون الأحاديث على العقل، يقول في هذا ( قصدت في المسند الحديث المشهور، وتركت الناس تحت ستر الله تعالى). يذكر طرابيشي في كتابه (من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث) (إن كلمة /حديث صحيح/ هي ذات حمولة أيديولوجية ثقيلة، فما دام أن معيار الصحة لا يكمن في الحديث نفسه بل إسناده، فإن الحديث الصحيح هنا من نقل عن ثقة أو العدل الضابط عن مثله دونما اعتبار لصدقه في متنه ومنطوقه، ومن هنا تحول علم الحديث إلى علم برجاله تعديلاً وتجريحاً، دون أن يكون هناك حضور للمحدث عنه الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام إلا من خلال الصدق المفترض للمحدث أو كذبه.) مع ما في هذا من خطورة النتائج التي يترتب عليها، لاسيما إذا عرفنا أن بعض المدارس الفقهية لا ترى بأساً في الاستدلال بالحديث الضعيف في الفروع، وكلما اتسعت الشقة الزمنية بيننا وبين تلك الأحاديث، اندرج المزيد من تلك الأحاديث في حيز القداسة، بغثها وسمينها، وباتت عصية على المراجعة والتفنيد. فقد تسربت إلى المدونة الفقهية عبر العديد من البوابات أحاديث موضوعة تتنافى مع العقل والفطرة السليمة كالحديث الذي يجيز الغيبة (ليس لفاسق غيبة) رغم تحريم الغيبة بنص قرآني، والموقف السلبي من النساء كالحديث الضعيف (شاوروهن وخالفوهن)!! بل إن الكثير من فتاوى التطرف كانت تمرر تحت مظلة أحاديث ضعيفة أو موضوعة أو تم تخريجها بشكل يخدم مآرب الجماعات المتطرفة.. ومن هنا تأتي أهمية إنشاء (مجمع خادم الحرمين للحديث النبوي الشريف)، فالحديث الذي يعتبر المصدر الثاني في التشريع، ومرجعية مهمة تتصل في الدقيق والجليل من الأمور، وتنعكس على التفاصيل اليومية الدقيقة من حياة معتنقي ثاني أكبر الديانات في العالم، بحاجة إلى أدوات علمية تفرز وتدقق وتضبط، وتغربل المدونة الفكرية لتلك المجتمعات، من كل الفتاوى الهوجاء المتطرفة التي عبثت بها لقرون طويلة، ووقفت حاجزاً وسداً يحجب تيار الزمن من أن يتغشى تلك المجتمعات ويقدح زناد نهوضها، فظلت شعوباً متخلفة منغلقة عصية على التحضر، بل في أدنى المراتب العالمية علمياً وحضارياً مع ارتباط اسمها بالعنف والاستبداد. مجمع الحديث هو خطوة إجرائية كبرى وموقف حاسم نحو تخليص السيرة النبوية الشريفة من حمولة تاريخية ثقيلة ومنهكة.