عندما وصل كتاب العقد الفريد لمؤلفه ابن عبد ربه الأندلسي إلى الوزير المثقف الصاحب بن عباد في القرن الرابع الهجري ، لم يجد به جديداً مدهشاً يعكس الأندلس وطفرتها الحضارية آنذاك، فمجلداته السبعة تندرج في صيغة مؤلفات المقابسات التي انتشرت في المشرق وقتها متضمنة الأخبار والطرائف والملح التي تؤنس جلاس البلاط، مثل الأغاني للأصفهاني، والمقابسات والإمتاع والمؤانسة للتوحيدي وسواها، فلم يكن من ابن عباد إلا أن قال (هذه بضاعتنا ردت إلينا). ويبدو أن المغرب ما برح يحمل علاقات المقابسة مع المشرق، حيث يظل يمثل له مرجعية في فكره ونمطه وفلسفته، وإن كنا في العصر الحديث نظن أن المغرب قد استقل بإنتاجه الفكري، وصنع خطاً ريادياً مستقلاً مستمداً من الأدوات البحثية الغربية التي اطلع عليها بكثافة نتيجة الانفتاح الاستعماري على الغرب، إلا أنه يبدو أن علاقة المرجعية والمقابسة تظل قائمة، وهذا ما تبدى لي بوضوح بين كتابي نقد التراث للمغربي بلقزيز الصادر عام 2014، وكتاب المشرقي جورج طرابيشي مذبحة التراث الصادر عام 1993. فلم أجد في كتاب نقد التراث لعبد الإله بلقزيز سوى توسعاً وإسهاباً لأطروحة طرابيشي في مذبحة التراث، وحتى لا ألقي الأحكام جزافاً من باب الإطلاق هنا بصورة تعميمية، سأختار ثلاث نقاط جوهرية رئيسة تعتبر العمود الفقري للكتابين: * كتب طرابيشي كتابه (مذبحة التراث) قبل ربع قرن بهدف تفكيك وتحليل أعمال الكتاب (غير الكلاسيكيين) المشتغلين بسؤال التراث والتاريخ الإسلامي ما بين علاقة تقديسية من ناحية وعلاقة أخرى تسعى لقتل الأب، وهي نفس الفكرة التي أقام عليها بلقزيز كتابه (العمل على دراسة تاريخ الدراسات التراثية من زاوية نظر مفكري الحداثة) ومراجعة نتاج الأسماء البارزة التي اشتغلت في هذه المنطقة. * في مذبحة التراث انطلق طرابيشي من مقدمة تتغلغل بجميع صفحات كتابه مفادها أن مقاربة التراث من قبل من يسميهم (حاملي الأيديولوجيات الثورية الحديثة) متورطة بمنهج الإسقاط الأيديولوجي (كالجراح الذي يريد إخضاع التراث لعملية جراحية يستأصل منه ما يعتقد بأنها أورامه الخبيثة، والتي لا تكون في الواقع إلا أعضاؤه الأكثر حيوية) . بينما هذه المقدمة تصبح نتيجة عند عبدالإله بلقزيز في قوله ( وليس من سبيل اليوم من تحرير التفكير العربي في التراث من الاستقطاب الأيديولوجي إلا بتأسيسه على قواعد البحث العلمي)، ومن هنا بالتأكيد سيظهر عدد من الشخصيات المبحوثة المشتركة بين الاثنين مثل حسين مروة، زكي نجيب محمود- الجابري ... وسواهم. * وإن كان بلقزيز قد أشار إشارة طفيفة لطرابيشي في توظيفه لمفردة (الجرح النرجسي) في علاقة الإنسان العربي مع ماضيه، لكن لم يشر للمقابسة شبه الحرفية لأفكاره مثل (فكرة التوظيف النضالي للتراث تعارض مع الوظيفة المعرفية بحد ذاتها) مذبحة التراث ص18 ط3، بينما يذكر بلقزيز بشكل مطابق(النزعة الاستثمارية للتراث، والمتمسكة بفرضية أن التراث صراع ثقافي أيديولوجي، بينما هو موضوع للمعرفة فحسب) 56 ط2 نقد التراث، حيث يجتمع تطابق الفكرة مع تشابه شديد في المفردات. بالطبع هذه لمحات سريعة حول الكتابين بما تتيحه مساحة المقال، ولكن قد يقودنا لاحتمالية أن المغاربة سيظل المشرق لهم معيناً ومرجعاً و وادياً ثرياً للمقابسة.