منذ بواكيرها الأقدم -حيث مرحلة التأسيس الأولى- وهذه الدولة تولي الأولوية لثوابت الشريعة ثم مرجحات الاجتهاد في المتغيرات ضمن إطار جعلها تتوازن كثيراً في تلبية الاحتياجات التقنينية، الأمر الذي جعل من ثابت "صلاحية الشريعة لكل زمان" واقعاً تطبيقياً حاضراً. غير أن تباين واقع الاجتهاد ما بين الدوائر القضائية يجعل من حصره تقنيناً ضرورة تنظيمية يفرضها المتغير على الأرض كأنساق اجتماعية وتداخل ثقافي، وصولاً لآلية ردع حازمة في العديد من الأمور الحادثة، حيث الحاجة لنظام مفقط في مواد تستند لتلك الثوابت ومرجحات الاجتهاد يتم الرجوع إليه مرجعيةً للتقاضي وأصلاً للفهم ومن ثم للأحكام لاحقاً. صدور الأمر السامي الكريم بإعداد مشروع نظام لمكافحة التحرش ينطلق من تلك الحاجة ويندرج في ذلك الفهم الأولي للتشريع، فالحراك الاجتماعي لم يعد في آصرته المصغرة كما كان بواكير نشأة الدولة، في ذات الوقت الذي لم يعد المجتمع السعودي نسقاً مغايراً عن الدائرة الاجتماعية الحضارية فيما سواه من البلدان. كانت الحاجة لمثل ذلك تتزايد تراكمياً مع المتغير الاجتماعي السعودي، وزادها إلحاحاً صدور الأمر السامي الكريم بشأن السماح للمرأة بقيادة السيارة، وبالتالي فإن احتمالات الدخول في معترك متباين جداً لاختلافات الاجتهاد القضائي في إطار العلاقة المتماسة بين الجنسين تعاملاً في شتى اتجاهات الحياة اليومية أكثر توقعاً وانتظاراً. ومن المهم هنا التأكيد أنه سيضيف بعداً اجتماعياً رائعاً إضافة لأبعاده القضائية التقنينية المنتظرة، حيث لن يعود أمر التوجس من تماس تلك العلاقة بعبعاً يخيف المرأة بالدرجة الأولى والأسرة والنسق الثقافي العام للمجتمع، فالقانون هنا سيكون حاضراً أكثر من انتظار ضبابية في ردة فعل قضائية تتباين ما بين دائرة وأخرى. يمكننا القول هنا إن استشراف المستقبل القريب لتنظيم أخلاقيات التعامل ما بين الجنسين في ظل دوائر التقارب المعاملاتي اليومية مليء بالفآل والترقب لنسيج اجتماعي قائم بذاته وفق أصول شرعية وقانونية وأخلاقية وقيمية مزدهرة واقعاً. ثمّ تساؤل يطرح: هل كان المجتمع لهذه الدرجة من الانفلات ليحتاج تقنيناً كهذا؟ ليس بالضرورة لنجيب عن مثل ذلك بالإيغال في عرض بعض المظاهر هنا أو هناك وكأنما هي أساس العلاقة في المجتمع، الأمر أبعد من ذلك.. حيث إن صدور نظام لا يعني ضرباً بيد من حديد لسلوكيات مستشرية للدرجة التي أصبحت عنواناً للمجتمع، قدر ما يستجيب لحاجة ملحة في جانب التشريع التقنيني الملزم بما يتواكب والمتغيرات ويضمن عدم وجود أي تشوهات تستغل مستقبلاً الخلو من تنظيم إجرائي واضح، إضافةً بالطبع للقضاء على بعض المظاهر المؤذية حتى ولو لم تكن طاغية. هذا الترقب المتفائل للمرحلة القادمة يوحي به وإليه مثل هذا الأمر السامي الكريم وما ينتظر أن يتلوه من مرجعية إجرائية بما لا يجعل هناك فرصة لمستغل أو متساهل أو غير آبهٍ على الأقل. الجزم بذلك أصبح من بدهيات فهم التغيير الإيجابي الذي يتسارع على أرض الوطن وينبئ عن نقلة لم تكن لتحدث لولا الإيمان بضرورته من قبل المسؤولين في الدولة وانتظار نتائجه من قبل مختلف شرائح المجتمع. وإلى أن تعلن مسودة مشروع النظام، يمكننا استلهام وحيه العام بما يجعلنا أكثر اطمئناناً -من الناحية القانونية- لانسيابية حياتية وفق أنظمة قوية وحازمة لآلية التعايش الأخلاقي ما بين الجنسين بما يجعل المكون الاجتماعي العام للبلد أكثر إيجابيةً في مفاصل الإنتاجية الحضارية التي تقود بإذن الله لوطن أكثر استقراراً ونمواً وطمأنينة. * محام ومستشار قانوني