* من أين أتيت؟ * أتيت من داخلي.. النوازع الذاتية التي تتشابك داخل النفس البشرية هي حقيقة جميع السلوكيات والانفعالات التي تصدر من البشر في ظروف فعلية متباينة من تردد وجرأة أو تخوف وإصرار أو أنانية وتضحية، وهذا ما تترجمه الجملة التي ابتدأت بها المقال، وقد كانت جزءاً من النص المسرحي "تشابك" حاصد الجوائز الخليجية والسعودية لعراب المسرح السعودي الأستاذ فهد بن رده الحارثي. للوهلة الأولى يشعر المتابع للمسرحية بالحيرة حول مكانية النص، هل هو بين شخصيتين منفصلتين ومتباينتين، أم هو داخلي بين النزاعات النفسية لشخصٍ واحد! وهو ما يجذبك للذوبان في الحوار الانسيابي بين أبطال المسرحية التي اعتمدت في عرضها على ممثلين اثنين فقط، كان أداؤهم عالياً، استطاع الظفر بالجوائز وإعجاب النقاد بكل استحقاق. "الأشياء تبدأ كالألعاب، ثم تتحول إلى حقائق". العمق الدرامي والفلسفي في النص يناقش التابو الذي يوقع العديد من البشر في صراع نفسي تختلف حدته من شخص لآخر، ويكون قاعدة قوية لتنامي الوساوس القهرية في شكلها الذي يظهر غالباً كعدم الرغبة بتكوين صداقات جديدة، أو الخوف من الزحام، والأمراض، أو المبالغة في الاهتمام لرأي الآخرين حتى ينتهي بوسواس النظافة، أو عدم الرضا عن الذات، ويتبادل البطلان الحوار المسرحي الذكي بطابع غروتسكي مميز، فيحملان المشاهد على الضحك والحزن والتأمل، فيما يستمر التخمين للظرف المكاني للنص، الذي يجوز قبوله على كلا الوجهين المكانيين الخارجي والداخلي، وهو ما ينطلق بالمتلقي في فضاء سريالي مفتوح مستمتعاً ومتشوقاً لنهاية الحدث. بهذه الممكنات البسيطة استطاع المؤلف المسرحي فهد رده الحارثي والمخرج أحمد الأحمري والممثلون المنتمون ل"فرقة الوطن المسرحية" التحليق لفضاء الإبداع ونيل الجوائز والتكريم عن جدارة واستحقاق، وهذا التألق يجعلنا نطمع في إحداث ثورة إبداعية تخلق مسرحاً للجمهور العربي والسعودي العريض ترغمه على الحضور والتفاعل بصيغة تقترب من العامية أكثر، وتستخدم التقنيات الإخراجية المعاصرة لخلق سينوغرافيا مرضية للمشاهد الذي اعتاد على العروض الخارجية القوية، والتأثير الحقيقي في المسيرة الثقافية المحلية، ثم الخروج بالمسرح من نفق النخب الثقافية. استطاع الفن السعودي -مسرحاً ودراما- التجديف لسنوات طويلة في مياه راكدة بأبسط أدواته، واستمر في البقاء على قيد الأمل حتى وصل بالكاد إلى بر النهضة الواعي بأدوات التأثير الجماهيرية المهمة، ويبقى الأمل الأكبر في المسؤول عنها لإعطاء هذه الروافد الثقافية القدر المناسب من الدعم المعنوي والمادي، وإزالة عقبات نهوض الحركة المسرحية والدرامية السعودية بشكل جدي.