لا مناص من أن الدين الإسلامي الحنيف دين الرحمة والتسامح والتعايش والإحسان والوسطية. وقد تميزت هذه الأمة العظيمة بقيمها السامية عن غيرها من الأمم بكونها أمة الوسطية، كما قال تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً"، في إشارة واضحة إلى ظاهرة التوازن والاعتدال في الأعمال والممارسات القائمة على وعي وجداني والتمسك بالحق والتزام العمل الصالح الذي هو سمة المجتمع المتحضر. فالوسطية منزلة بين طرفين كلاهما مذموم. وتميزّ ديننا بالسماحة والسير ورفع الحرج عن أتباعه ومع هذا الوصف لهذه الأمة والدين، إلا أن ثمة من خالف مقصد الشارع الحكيم وخرج عن سمة أمة الوسط والاعتدال وانحرف عن المنهج الصحيح وارتمى في أحضان الانغلاق الفكري والتطرف الديني والانحراف الثقافي. ووصولاً إلى مرحلة لاحقة بالتطرف المرضي الإرهابي إلى ازدراء الغير واستباحة دمائهم وأموالهم وهم بالنسبة له متهمون.. وأن حالة الجمود الفكري والانغلاق الديني تعتبر سلوكيات مناهضة وقيم خارجة عن قواعد الضبط الديني والأخلاقي والاجتماعي وهي حالة مرضية ومسلك خطير ينم عن خلل (وظيفي) في التنشئة الاجتماعية والنفسية والعقائدية والتربوية والفكرية يقود -دينامياً- إلى تعطيل القدرات الذهنية والعقلية عن الإبداع والابتكار والبناء، والى نشر ثقافة التعصب المقيت والإقصائية ورفض التعايش ولغة الحوار الحضاري وعدم قبول الرأي الآخر، كما يساهم هذا الاتجاه الفكري المنغلق في دائرته المرضية إلى إشاعة مظاهر العنف في التعامل والخشونة في الأسلوب وإلى سوء الظن بالآخرين والنظر إليهم نظرة تشاؤمية لا ترى أعمالهم الحسنة.. دون الإيمان بالتعامل الحسن وتأصيل لغة الحوار العقلاني المحمدي الذي كان منهج سيد البشرية عليه الصلاة والسلام حتى مع كفار قريش وأعداءه المشركين. ولذلك ينبغي مواجهة خطر الانغلاق الفكري والتطرف الديني على البناء الاجتماعي ونؤسس ونعمق مفهوم (الوسطية) ومنطلقاتها الأخلاقية في رحاب مجتمعنا السعودي، وهذا الاتجاه القيمي في قالبه الحضاري لا يمكن أن يتحقق دون أن تكون هناك مبادرات تنويرية واعية من مؤسسات التنشئة الاجتماعية، وهي (المؤسسات الدينية) من خلال المنابر الإعلامية أو خُطب الجمعة، خصوصاً أن هناك دراسة متخصصة أظهرت معطياتها العلمية أن تأثير خُطبة الجمعة في إيصال المضمون والتوجيه والتوعية أكثر من تأثير الإذاعة والتلفاز. كذلك دور المؤسسات التعليمية في مكافحة آفة الانغلاق الفكري والغلو الديني، وترسيخ قيم الاتزان بتوفير الأساتذة والمعلمين المعتدلين «سلوكياً وفكرياً وعقائدياً» وإتاحة الفرصة للطلاب للتعبير عما يجول في نفوسهم ووجدانهم والإجابة عن استفساراتهم في المسائل الفقهية والدينية وإبراز الوجه الحقيقي للإسلام الذي يتسم بالسماحة والاعتدال جناحي الوسطية.. باستخدام أسلوب التربية الحوارية والفكر الاعتدالي في معالجة آفة الغلو والتطرف والتعصب والعنف ومثالبه، كما أن المؤسسات الإعلامية لها دور مفصلي في رفع سقف الوعي المجتمعي والأسري، ونشر ثقافة الوسيطة والاتزان ونبذ لوثة التطرف والإقصاء والتشدد والسلوك الضلالي.. عبر رسالتها المهنية السامية وتوجّهاته المؤثرة في العقل والخيال والعاطفة والسلوك والقيم، مع ضرورة أن يقوم مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني بإطلاق مزيد من البرامج التنويرية والندوات الحوارية والأنشطة الثقافية التوعوية والفعاليات الاجتماعية التي تعزز من قيم التعايش والوسطية والتسامح، ونشر ثقافة الحوار الحضاري بين أطياف ومكونات مجتمعنا السعودي الفتي، وبالتالي الحد من انتشار ميكروبات هذا الاتجاه الفكري والديني الخطير في دائرته المنغلقة.