لم تتخذ أورورا من الهروب خارج محيط فرنسا حلاً لأنها تُدرك بأن المشكلة لا تُحل بمشكلة أخرى، بل بقيت ببلدها رغم تدني الحياة المعيشية وناضلت نِضال الشُرفاء لمن سيأتي من بعدها دون أن تبحث عن الشهرة والتكسُب.. في عام 1831م قامت امرأة فرنسية شابة "تدعى أورورا دوبان" بترك زوجها في إحدى المقاطعات وانتقلت إلى باريس. كانت تلك الشابة شغوفة بالحرية في وقت تضاءلت به حقوقها مقارنةً بالرجل الفرنسي. وعلى الرغم من مساهمات النساء الفرنسيات في صياغة قوائم المظالم والدور الذي تلعبه في ثورة أكتوبر الشهيرة عام 1789م. إلا أنهن لم يلقين أي حقوق ممنوحة في بيان حقوق الإنسان والمواطن. وعلى أية حال كانت أورورا عندما تركت زوجها تريد أن تُصبح كاتبة وقد شعرت أن الزواج أسوأ من السجن، غير أنها بعد وقت قصير من وصولها إلى باريس كانت مضطرة إلى مواجهة بعض الحقائق القاسية، فلممارسة أي قدر من الحرية في باريس يتطلب أن يكون معك مال، والمرأة بذلك الحين كانت تعتمد على زوجها فقط في جلب المال وقلة من هن يعملن بدعم من أزواجهن. ولم تستطع امرأة أن تمارس عملها ككاتبة لتدبر أمر معيشتها في ذلك الحين إلاّ بشق الأنفس، فقد كانت الكتابة مُيسّرة للذكور ومن الصعب أن يتقبل المجتمع امرأة تكتب وتطالب بحقوقها. لذلك كان واضحا أن أورورا تفكر بالمستحيل، غير أنها في نهاية المطاف ابتكرت خطة لعمل ما لم تعمله امرأة فرنسية على الاطلاق، والخطة هي أن تلعب دور الرجل من خلال كتابتها، ففي عام 1832م نشرت قصة تحت اسم مستعار هو "جورج صاند" فافترضت باريس كلها أن الكاتب الجديد المثير للإعجاب هو ذكر، وتطور الأمر إلى أن أصبحت أورورا ترتدي القمصان والمعاطف الرجالية، وبعد وقت قصير فتن الناس بهذا الكاتب المثير والغريب في آن واحد. فوجدت أورورا نفسها مقبولة بين الفنانين الذكور، مُلهمة للناس وشعرت بأنها أمضت حياة حافلة بالنشاط الفكري والدعوة لتغيير حال المرأة الفرنسية بطرُق أكثر سلمية، عن طريق قلمها الذي اتخذت له اسماً ذكورياً. والجدير بالذكر بأن أورورا كانت معروفة بأنها أنثى عند بعض المشاهير، هذا ما قاله الكاتب الكبير روبرت غرين في أحد مؤلفاته. وفي خضم تحليل شخصية هذه الشابة الفرنسية نجد أنها رفضت القيود التي كان المجتمع يفرضها عليها وأوكلت على نفسها مهمة جمع النفوذ والشهرة لتحقيق أمر ما بغاية الأهمية، وهو تحقيق مطالب المرأة الفرنسية ولعل أبرزها حرية العمل وممارسة الاستقلالية وامتلاك حق تقرير المصير، لقد كانت تكتب بصمت ولم تستعن بأي قوى دولية خارج محيط فرنسا رغم تكالبُ القوى السياسية على فرنسا آن ذاك، ولم تلجأ لأي حزب أو تيار فكري خارج حدود وطنها؛ لأنها تؤمن بأن التغيير لا بُد وأن يبدأ من الداخل؛ لذلك بدأت بنفسها ثم بأُسرتها وتدريجيا إلى أن وصلت للمجتمع واخترقتهم عن طريق القلم. ولم تتخذ أورورا من الهروب خارج محيط فرنسا حلاً لأنها تُدرك بأن المشكلة لا تُحل بمشكلة أخرى، بل بقيت ببلدها رغم تدني الحياة المعيشية وناضلت نِضال الشُرفاء لمن سيأتي من بعدها دون أن تبحث عن الشهرة والتكسُب عن طريق كتاباتها وكان يكفيها فقط المال وأن تعيش حياتها وِفق ما تشتهي بدليل أنها لم تنشر قصة قط باسمها بل باسم ذكوري. نعم إنه نضال الشُرفاء.. لأن الوطن بالنسبة لأورورا ليس أغنية تُطبّل لها بوقت الرخاء فحسب! بل هو قصة عشق لتُرابهِ ولدِماء شبابهِ. لذلك إن كنت صاحب قضية أو مطلب لا تقبل بالنمط المعيشي الذي يفرضهُ عليك المجتمع ثم تعيش دور المظلومية والشخصية المضطهدة، بل مارس العديد من الأدوار وتعلم كيف تتكيّف مع المجتمع حتى وإن كان أقصى طموحاته بدائية، ناضل نِضال الشُرفاء واصنع هوية جديدة يكون من شأنها أن تكسب الاهتمام، وجديرة بأن تُضاف لتاريخ وطنك للأجيال القادمة، لا تسأم لا تتململ فالمطالب لا تؤتى دفعة واحدة! لا تنخدع بالشعارات والضوضاء فالمؤمن الفطِن يعلم كيف يستخدم ذكاءه ويسخّره للخير والسلام دون اللجوء لإحداث ضجيج أو الانضمام إلى قطيع وهمي. استعن بقلمك فالقلم سلاح يُشهر أمام الفِكر، كما يُشهر السيف أمام العدو، كُن مؤمنا بقدرة الله على تغيير الحال لأفضل حال، فالأفكار الرديئة مثلاً التي يؤمن بها بعض من أفراد المجتمعات سواء العربية أو الغربية، تجاه المرأة لا بُد أن تندثر مهما علت أصوات المناوئين لها ومهما كثُر أتباعها. ولنا في التاريخ شواهد ودروس سلبية وإيجابية وحلول جريئة يصعب عند البعض تطبيقها لأنها لا تتماشى مع تُراث المجتمع ككل، لكن صاحب القضية يجب أن يُلّم بتجارب الآخرين وأن يعود للتاريخ ليستلهم منه الحلول. لابد من البحث عن حلول أكثر قانونية وسلمية لحل بعض الأفكار التي أساءت للمرأة، علينا أن نتكاتف لنشر الوعي بالمطالبة للحقوق بطرق قانونية وأكثر حضارية. ولابد من التمعن في الحركة النسوية الحقوقية في فرنسا، التي مرت بمراحل ومحطات خلال قرون من الزمان إلى أن وصلت المرأة لمناصب عليا بالدولة، ففي عام 1946م شغلت "أندريه فيينو" منصب وكيل وزارة الدولة لشؤون الشباب والرياضة وهي أول امرأة تشغل هذا المنصب، وظل التحدي المتمثل في مساواة الرجل بالمرأة قائماً إلى أن حُسِم قُبيل دخول الألفية الثانية بسنوات قليلة.