هل تذكرين من أنا؟ وجّه هذا السؤال سمير فارس إبراهيم، الى والدته الأديبة اللبنانية إميلي، عندما زارها في «دار العناية والرعاية» خارج بيروت. وتفحصته بعينين دامعتين وهي تحاول شحذ ذاكرتها لعلها تعثر على اسمه. ولما خانتها الذاكرة، قالت بصوت متهدج: - لا أتذكر الاسم... لكن أنت ابني! أجري هذا الحوار صباح يوم العاشر من أيلول (سبتمبر) السنة الماضية، عندما وصل سمير من فنزويلا (حيث يقيم) ليودع شقيقه شوقي الذي توفي في مستشفى «أوتيل ديو» بعد صراع طويل مع مرض السرطان. وقبل أيام أُقيمت في قاعة اليونيسكو في بيروت حفلة تكريم لبعض السيدات المتفوقات في حقول الأدب والثقافة والتربية برعاية وزير التربية الدكتور حسن منيمنة. وكان اسم إميلي فارس إبراهيم يتصدر القائمة. وبما أنها أُصيبت بمرض النسيان منذ سنتين تقريباً، فقد مثلتها نسيبتها المحامية صونيا إبراهيم عطية. ومن الضروري التذكير بأن إميلي تخطت المئة سنة من العمر بخمس سنوات. ولكنها ظلت محتفظة بذاكرة وقّادة الى يوم بلوغها المئة وثلاث سنوات. وكانت تعزو ذلك الى المران المتواصل للعقل بحيث إنها كانت تقرأ دائماً وتكتب يومياتها بالتفاصيل. والمؤسف أنها كتبت مسودة عن سيرة حياتها احتفظت بها في مكتبها داخل عمارة الريجي في الشويفات. وخلال الحرب الأخيرة سقطت قنبلة على المبنى فأحرقته، وأحرقت معه أثمن مذكرات الأديبة التي اتهمتها الدولة بترويج مبادئ الشيوعية، والسبب أنها كانت تتحدث عن الظلم الاجتماعي وعن ضرورة تحرير المرأة. وبما أن منزلها كان يعج بالمؤيدين من كل الاتجاهات، خصوصاً اليسارية، مثل: يوسف إبراهيم يزبك والدكتور جورج حنا وفرج الله الحلو وكمال جنبلاط، لذلك شجعت السلطة في حينه الناخبين على محاربتها. وهي تعترف بأن كتابات جدها الأديب الكبير فيلكس فارس الذي توفي في مصر، قد أثرت فيها وبلورت أفكارها السياسية والاجتماعية. ولدت في نيويورك، ثم انتقلت مع والديها الى مشغرة (معلقة زحلة). ومن المؤكد أن الوضع الاقتصادي - الاجتماعي المريح الذي توافر لوالدها، هيأ لها فرص الالتحاق بالمدارس والجامعات، حيث نجحت في تكوين خزّانات من العلم والأدب كانت تغرف منهما عند الحاجة. وقد ساعدها زوجها صموئيل إبراهيم، على إكمال مسيرتها من دون عوائق، بسبب دعمه طموحاتها السياسية والاجتماعية. شاركت في الحياة الثقافية والأدبية من خلال «جمعية أهل القلم» التي ساهمت في تأسيسها عام 1952... ومن خلال «جمعية أصدقاء الكتاب» التي تعاونت على إطلاقها مع المؤرخ قسطنطين زريق. وقد انتُخبت مرات عدة لترؤس «اللجنة الدولية للشرق الأوسط» في المجلس النسائي الدولي. كما كانت أول امرأة في لبنان والعالم العربي تترشح للانتخابات النيابية لدورتين متتاليتين، وذلك فور الاعتراف بحق المرأة في خوض الانتخابات. صدر لها سبعة كتب بالعربية وكتابان بالفرنسية، وهي بمجملها تتحدث عن الحركة النسائية والدعوة لتحقيق المساواة بين المرأة والرجل في مختلف المجالات. وقد ركزت في كل مؤلفاتها على أهمية بناء مجتمعات متطورة تعتمد على المساواة ودور المرأة من أجل الخروج من عصر التخلف والحركات الأصولية. ناضلت ضد الحرب الأهلية في لبنان، وقادت تظاهرات واعتصامات بهدف رفع المتاريس. ووقفت دائماً مع وحدة لبنان ضد كل مشاريع التقسيم والشرذمة. تحمل إميلي فارس إبراهيم بكل فخر، أوسمة عدة من بلدان مختلفة قدرت فيها مثابرتها على نهوض المرأة في الوطن العربي. فالحكومة اللبنانية منحتها وسام اللبناني برتبة ضابط . في حين منحتها الحكومات الفرنسية المتعاقبة أوسمة عدة تقديراً لمساهمتها في الإنتاج الأدبي ولحمل قضية المرأة العربية الى المحافل الدولية. لذلك حصلت على: وسام الجائزة الفرنسية الكبرى للأعمال الإنسانية، ووسام الضابط الفني والثقافي الفرنسي، ووسام العمل الإنساني برتبة كوموندور. آخر كتاب أصدرته لها «دار ومكتبة التراث الأدبي» تحت عنوان «كلمات ومواقف». وهو مجموعة مقالات سياسية واجتماعية وثقافية وإنسانية. وقد اختار منها الناشر هذه العبارة ليدلل على خيبة أملها. والعبارة هي: «لقد ناضلت كثيراً في سبيل فوز المرأة بحقوقها السياسية. وانسجاماً مع هذا الموقف كنت أول امرأة تخوض معركة الانتخابات النيابية في لبنان والعالم العربي. ولكن ما حيلتنا، والعقل في محنة ولغة المخاطبة تنطلق من خلال ضجيج الغوغائية». بعد أن أُحيلت على التقاعد من مصلحة الريجي، حيث كانت تعمل كرئيسة قسم بعد وفاة زوجها، حاولت املي فارس إبراهيم، أن تكتب مذكراتها من جديد. ولكن الحرب اللبنانية أقلقتها وصرفتها عن التركيز على تاريخ ماضيها الحافل بالمآثر. منتصف عام 1997 فازت الطالبة اللبنانية رنا عز الدين دندشي بجائزة «ماري هاسكل» المخصصة للأعمال الأدبية المميزة. وكان عنوان أطروحتها «المرأة الأديبة في كتابات املي فارس إبراهيم». في عيد ميلادها ال105 تحلّق حولها الأنسباء والأحباء كي تطفئ الشمعات التي أضاءتها في طريق تحرير المرأة اللبنانية والعربية. ولكن مرض فقدان الذاكرة أسعفها على نسيان مرحلة الكفاح والنضال وكل ما فعلته في حياتها الطويلة من حرية المرأة ومساواتها. وتقول حفيدتها الصحافية الزميلة بيلندا شوقي إبراهيم: ربما كان من الأفضل لها ألا تتذكر...