خلال شهر أغسطس المنصرم شهدت أميركا الشمالية هوسا كبيرا بكسوف الشمس .. ولكن؛ رغم كل مظاهر الاهتمام الشعبي (والرحيل إلى مواقع الحدث) كانت الظاهرة نفسها متوقعة منذ ثلاثين عاما.. كان معروفا منذ ثلاثة عقود أن كسوفاً كلياً ستظلم بسببه السماء يوم الاثنين الموافق 21 أغسطس 2017 في أميركا الشمالية... تعامل الجميع مع الظاهرة كحالة فلكية متوقعه ومفهومة بعكس ماكان يفعله البشر منذ قديم الزمان .. في الماضي؛ كانت كل مظاهر الحياة بالنسبة للرجل البدائي مرعبة وغير متوقعة وخارقة للعادة.. الخسوف والكسوف والبرق والزلازل والبراكين والأعاصير تسببها حسب مفهومه قوى خارقة تستحق الخوف والخضوع .. اخترع الأديان الوضعية لتفسير الظواهر الطبيعية التي عجز عن فهمها أو تجاوزت قدرته على تفسيرها.. وحين ظهرت الأديان السماوية فسرتها كمشيئة إلهية ولكنها تركت للإنسان فرصة اكتشاف مسبباتها بنفسه بدليل {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق}... في علم الأديان هناك ما يدعى آلهة الفراغات المعرفية .. فكل فراغ معرفي (لا يمكن للإنسان تفسيره) ينسبه تلقائيا لقوة سحرية أو غيبية تقف وراءه وهي في هذه الحالة تسعة آلاف إله في ديانات العالم المختلفة.. وكلما زادت معارف الانسان، كلما ملأ فراغا جديدا وتخلص من فكرة وجود قوى خارقة تقف خلفها.. ورغم أن هذا المصطلح "آلهة الفراغات" يستعمل لتفسير التراجع الديني أمام التفسير العلمي، يستعمل أيضا من قبل رجال الدين في أديان العالم المختلفة لتأكيد وجود آلهتهم (بطريقة؛ ما لا يمكن للعلم تفسيره يعني تلقائيا وجود قوى غيبية عظيمة خلفه)!! ... ومن وجهة نظري الشخصية أعتقد أنه ليس من مصلحة الجانبين إقصاء الآخر .. ليس من مصلحة الجانب الديني اقصاء التفسير المادي (كونه مرئياً ومحسوساً ومعروفاً لجميع الناس) وفي المقابل ليس من مصلحة الجانب المادي اقصاء التفسير الديني (كون الناس يؤمنون بمعتقداتهم ويفسرون من خلالها أشياء كثيرة)... أنا شخصيا أؤمن بأن المعرفة تحرر الإنسان من الجهل والخرافة وقدسية الموروث دون أن تخرج بالضرورة عن المشيئة الإلهية .. بل أعتقد أن الانسان الذي يجمع بين المفهومين يصبح أكثر ثقه بنفسه ووعيا بذاته وتصالحا مع آلهته (أيا كانت ديانته).. عد معي إلى أيام الرجل البدائي الذي كان يعتقد أن البرق والرعد يعبران عن غضب الآلهة وزمجرتها في السماء.. ولكننا نعلم اليوم أن البرق والرعد مجرد ظاهرة كهربائية تنجم عن تفريغ الشحنات الكهربائية في السحب الرعدية ودون أن تخرج مرة أخرى عن المشيئة الإلهية. معرفتك بالأسباب المادية والطبيعة لا يعني بالضرورة اقصاء الفكرة الإلهية ولكنها فقط تجعلك أكثر فهماً واستقلالية وتخلصاً من قيود الخرافة.. قارن مدى شعورك بالثقة الناجم عن معرفتك بمواعيد الخسوف والكسوف (لثلاثين عاما قادمة) مع الخرافات المرعبة التي تؤمن بها بعض الأمم حتى يومنا هذا.. ... باختصار شديد؛ المعرفة تقتل الخرافة، ولكنها لن تقضي لا في الحاضر ولا في المستقبل على إيمان الشعوب بآلهتها...