الباحثُ والمثقف وكاتب السِّيَر.. سادِنُ الإبداع السعودي.. راصدُ البدايات وموثق التحولات.. كلها بعض مما أطلق على الصديق محمد القشعمي، في استحقاق فريد، يشكل اعترافاً بقيمة رجل أثرى المكتبة العربية بقرابة ثلاثين مؤلفاً، إضافة إلى كتب تُرجمت له أو أشير إليه فيها بما يتجاوز ال60 كتاباً، عدا مقالات ودراسات بالعشرات، وذلك في فترة زمنية تعتبر قصيرة جداً، في رحلة مع الكتابة والأدب ربما لا تتجاوز ال20 عاماً. القشعمي، الذي التقيته كثيراً في حضرة أديب الجزيرة العربية الكبير عبدالكريم الجهيمان، والأستاذ محمد العجيان، استطاع أن يفرض اسمه باحترام بالغ على الساحة الأدبية والثقافية في بلادنا، عبر ما يمكن اعتباره الرصد البيبلوغرافي الموثق، ملقياً الأضواء على مسيرة شخصيات مبدعة خرجت من وراء هذه الصحراء، ولم يكن يعرفها أحد، وجسدت مؤلفاته المتعددة والمتنوعة، من "بدايات" إلى "ترحال الطائر النبيل" إلى "سادن الأساطير" نموذجاً لرصد المتغيرات الاجتماعية والثقافية في ملامسة واعية وعقلانية. من كان يصدق، أن هذا الطفل الصغير والتلقائي جداً، ابن قرية "معقرة" بالزلفي، سيجتاز رعبه من مرأى السيارة التي رآها لأول مرة في قريته، فيهرب منها محذراً أحد أبناء عمومته من الاقتراب منها حتى "لا تعضّه"، سيصبح بعد سنوات، واحداً من أبرز مثقفينا، وسيقدم بعد مسيرة طويلة كتابه القيِّم «بوادر المجتمع المدني في المملكة العربية السعودية»، مقدماً رؤية تاريخية لنشأة المجتمع المدني، وتجربته التي شكلت نوعاً من الحراك الاجتماعي قبل قرنٍ من الزمان، مفنداً كل المزاعم القديمة والجديدة. في كتابه "بدايات" نجح القشعمي في الإمساك بالواقع، وتقديمه دون رتوش، متدفقاً بعفوية نادرة، الأمر الذي جعل كاتباً كبيراً مثل محمد العلي يتساءل: "كيف نجا هذا الإنسان (القشعمي) من المآسي؟.. كيف نجا من العُقد؟! كيف لم يصبح عدوانياً وحاقداً، وناظراً إلى الحياة والأحياء بعينين من جمر وشرر؟! إنها نعمة كبرى أن تهوي المعاول على إنسان، ثم تبقى روحه شديدة الإضاءة". ما قاله العلي، يصلح أن يكون تلخيصاً لحياة طويلة نجح فيها الإنسان في أن يكون إنساناً بحق، وليس مجرد رقم في إحصاءات البشر.. هكذا كان أبو يعرب، وهكذا سيظل. المثير، كما يقول البعض، أن إبداع الأستاذ القشعمي لا يقتصر على الجانب الأدبي أو الفني، بل شمل كل ما له صلة بالإبداع الإنساني والتنموي والاجتماعي وغيره، فتميز أن غالبية إصداراته التي يطبعها على نفقته الخاصة، تتناول أفكاراً نادرة، تثير جدلاً.. وهو طريق وعِر ومرهق للغاية، ويحتاج قدرة خارقة على التحدي والصمود والمواجهة.. ولعل كتابه "الفكر والرقيب" نموذج على هذه المقدرة.