قد تشعر بصخب الحياة وضجيجها في وسط مدينة بيونس آيرس، أو تتخيل أولئك الدراويش الذين يهزجون بنغم صادح في أحدِ المقاهي المطلة على مضيق البسفور. كما يمكن أن يتراءى لك الغروب في أقصى الغرب، والسفن التي تشق عباب البحر في أقصى الشرق، أو ربما يتسنى لك السفر والترحال عبر الزمن! نعم! يمكنك بكل تأكيد؛ فقد تكون رحلتك ممتعة وأنت تجوس العوالم والأمصار دون أن تقلَّك مركبة أو تُشهر معرفاتك الشخصية لكي تعبرها. من المحتمل أن تكون رحلتك هذه ضاربة في أعماق التاريخ! تُجالس العلماء المتقدمين والمتأخرين، المكتشفين والفلاسفة.. وكذا الأدباء والنقاد. قد يبهرك الفيلسوف أفلاطون بمدينته الفاضلة, أو ابن خلدون بنظرياته وقوانينه حول الحياة الاجتماعية. ربما يستوقفك العقل المفكر/ آينشتاين وهو يدحض بعض ما قاله نيوتن بكل ثقه، أو قد تُعجب بنسج الأديب الأريب الجاحظ الذي عُرف باكترائه لدكاكين الوراقين، أو يستدر عطفك ويقحمك في جوِّ الصبابة والعشق الشاعر الشهير: قيس بن الملوح (مجنون ليلى). ستجد من يجادل عقلك بآرائه وأفكاره أمثال العالم والفيلسوف: فيثاغورس، وما يعتقده حول تناسخ الأرواح، أو يذهلك ما ينتخبه ابن عبد ربه عن العرب من الأقوال والأمثال والحكم والأخبار.. ستشهد في رحلتك هذه ربما معاركَ وحروبًا وثوراتٍ ضارية! سترى كيف ألقى الإنسان في رحم التاريخ مجازر إنسانية لا ترحم، ستعرف عالمًا مغايرًا لعالمنا: عالم ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقيا) والذي قد بنى منه الإنسان الأساطير والخرافة. ستتحين لك الفرص لتكشف عن ماهية الكلمات التي لها وقع عميق في ذواتنا.. كالحب والكره، الفاقة والغنى، الفرح والحزن.. إلخ، نعم يمكنك أن تعرف أكثر عن هذه الحياة وسراديب أسرارها، وكل هذا لن يحدث إلا إذا أنخت أمام تلك الكلمات المتراصة والقابعة بين دفتي غلاف يحفظها. بيد أنك لن تتمكن من الإحاطة الكلية بها مهما طمرت مكتبتك بفوج من الكتب؛ لأنك ستعرف الكثير وربما يغيب عنك الأكثر وما أنت إلا نقطة في بحر لُجّي واسع لا تدرك بداية ولا نهايته! فالقراءة وجه آخر لتنفض الغبار المتراكم فوق عقلك وروحك، هي نافذتك الأولى إلى العالم، ستغيرك.. ستجعلك تضع الأمور في نصابها بشكل لائق، ستلقي في جوفك لهيبَ المعرفة، والشغف الذي يضطرم ويخمد بين حين وآخر. لا بأس بأن تجتذب كتابك بجانب قدح من القهوة، أو قطعة شوكولاتة مفضلة، لا بأس بأن تقرأ صفحة أو تصل إلى المنتصف وتغلقه. لا بأس بأن تصاب بهوس شراء الكتب (الببلومانيا) دون أن تفتح أيًّا منها؛ فقط لتخامرك فكرة أنك عندما تصطدم بالقراءة ستترك فيك أثراً عظيماً ربما لا تستبينه في بادئ الأمر، ولكنك حتماً ستدركه فيما بعد. من المهم أن لا ترخي سمعك دائماً لوصايا القراء.. كل له طريقة خاصة في خلق عالم حميمي بينه وبين كتبه.. في وصوله إلى النشوة واللهفة.. في بقائه لساعات وساعات مسيّجاً بكتبه سواء أمام البحر في القطار أو في المكتبة. لكن من الجيد أن تسأل القراء عن أفضل كتب لديهم، بيد أنه من الأروع أن تختار كتبك بنفسك، حتى ولو كان انتقاؤك محبطاً لكاتب أرعن في نظرك؛ أو لأن ما يكتبه لا يستميلك! وفي المرة القادمة ستتجاوز تلك العقبة، وستستقيم ذائقتك؛ فتختار بعناية ما يعجبك دون مشورة أحد، حيث دهشة الاختيار! قد كتب لورد تشسترفيلد لابنه: "لا شيء أرغب فيه أكثر من أن تعرف، وقليل من الناس يعرفونه: الإحساس الحقيقي بالزمان وقيمته. كنت أعرف سيداً مهذباً يدبر وقته تدبيراً حسناً حيث لم يكن يضيع حتى ذلك القدر الضئيل منه، الذي ترغمه فيه نداءات الطبيعة على قضائه في بيت الضرورة؛ فكان أن تصفح تدريجياً جميع شعراء اللاتين في تلك اللحظات". من أجلك.. اقرأ لتعرف.. اقرأ لتعيش؛ فحياة واحدة فقيرة بعض الشيء!