كيف يبدو مستقبل أفغانستان؟ وما هي العوامل المحددة لهذا المستقبل والدفعة باتجاه تشكيله؟ بالطبع، نحن هنا بصدد قضية معقدة، بل بالغة التعقيد. أفغانستان ذاتها أضحت قضية عالمية بامتياز. المجتمع الدولي برمته يرى النجاح في أفغانستان نجاحاً له، والإخفاق اخفاقاً له أيضاً. في العام 1979، اتحد الغرب، ومعه غالبية العالم الإسلامي، في رفض الغزو السوفياتي، ورفض الاعتراف بتبعاته ونتائجه. في ذلك المنعطف التاريخي، وعلى ضوئه، جرى إعادة تشكيل كامل الجيوبوليتيك الإقليمي، وجزئياً العالمي، حيث دخلت الحرب الباردة الدولية يومذاك مرحلة جديدة. اعتباراً من العام 1985، دخلت الدولة الأفغانية، والمجتمع الأفغاني، منعطفا آخر، فالحرب ولدت حرباً أخرى. انسحب السوفيات، وبدأت الأحزاب والجماعات تقاتل بعضها، بالدبابة والمدفع والقذائف الصاروخية. هنا، استنسخ المقاتلون الأفغان التجربة اللبنانية، بكثير من تفاصيلها. وباتت أفغانستان مجموعة دول على أرض الواقع، وكل جماعة لها راية وزعيم. لماذا حدث ذلك؟ السبب بسيط للغاية. الفصائل الأفغانية اتحدت على محاربة السوفيات برعاية دولية، ودون أن تكون لديها خطوط توافق محلي أولية أو حتى مبدئية. هذه القوى جمعتها البندقية لا المنهج أو المشروع السياسي. وكانت تلك بداية المعضلة، أو جذرها وأساسها. هذا الأمر لم يكن من السهل احتواؤه أو تطويق تبعاته من قبل القوى الدولية أو الإقليمية الداعمة، والسبب أيضاَ أن هذه القوى ذاتها لم تكن متفقة على رؤية محددة لمستقبل أفغانستان. هذا في البدء، أما في المسارات التالية فلعبت التجاذبات الإقليمية، واستتباعاً الدولية، دورها في تعميق الأزمة الأفغانية. لم تتشكل دولة حقيقية في أفغانستان طوال هذه الحقبة التي امتدت نحو 15 عاماً. وفي المقابل، تعزز منطق الاثنيات والطوائف. بعد العام 2001، دخلت البلاد مرحلة جديدة لم تكن رهاناتها سهلة هي الأخرى. كانت السمة الأساسية لهذا المنعطف تشكيل ائتلاف عسكري دولي، أضحى لاحقاً تحت قيادة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وفي المركز منه الولاياتالمتحدة. لقد تداخل الرهان الأمني برهان سياسي، وآخر اجتماعي. وظل النجاح في أي من هذه الرهانات مرتبط بالآخر مباشرة أو مداورة. جرى تشكيل جيش وطني، ودفعت لأجله أموال طائلة لا يُمكن تصورها. ومن موقعي، كباحث في قضايا الدفاع، لم أقف على أية تجربة مماثلة في التاريخ. هذا الجيش، أريد له أن يكون ركيزة الأمن، واستتباعاً الدولة والمجتمع، في أفغانستان جديدة. حتى اليوم، هذا الرهان ما زال رهاناً. وهذا الجيش لا زال غير قادر على الإمساك بتفاصيل الأمن، رغم كل ما حققه من نمو تراكمي. من دون قوة قادرة على الامساك بالأمن، فإن الدولة، أية دولة، تصبح في مهب الريح. أو هي في الحد الأدنى تواجه إشكالية الشرعية. بالطبع، ليس جائزاً فقد الأمل، بل لا يصح لأحد أن يسقط في بحر اليأس. إن الرهان يبقى قائماً على خلق توافق إقليمي ودولي حول أفغانستان، بدلاً من واقع التجاذب والاختلاف الراهن. كذلك، من الحصافة بمكان البحث عن توافق وطني، وخطوط أساسية للمصالحة الوطنية. والمطلوب، خلال ذلك كله، مواصلة دعم الدولة كي تستطيع تعزيز منطقها. وهذه الدولة أمامها الكثير من المهام والتحديات، من إعادة توطين اللاجئين إلى الحد من ضغوط الحياة المعيشية، إلى بسط الأمن في كافة المناطق، بما فيها النائية منها. على الأفغان أنفسهم رفض منطق الفرقة والانقسام، العرقي والطائفي، وتأكيد مبدأ التعايش الأهلي، والوحدة الوطنية. ومن خبرتي طويلة الأمد بالمجتمع الأفغاني، والروابط الأهلية القوية التي تجمعني به، يُمكنني التأكيد على أن أفغانستان سوف تعبر يوماً إلى بر الأمان. وهذا هو قدرها، وقدر الأهل الأوفياء الكرام في سهوبها وجبالها، حفظهم الله جميعاً من كل سوء ومكروه.