لا يختلف اثنان على أن الربيع العربي غير مفهوم المكان في المدينة العربية، بل إنه جعل من "الجغرافيا" حاضرة بقوة في ذهن المواطن العربي، وشكّل ذاكرة جديدة سوف تعيش مع الاجيال العربية القادمة لفترة طويلة، وسواء أكنا راضين عن الاحداث التي تجري في المناطق العربية المختلفة أم متفقين معها، وسواء أكنا مع فريق أم ضده، فالمكان العمراني في المدينة العربية تحول بشكل واضح إلى مكان سياسي وأصبح للمدينة العربية ذاكرة سياسية تقفز للذهن كلما ذكرت الأمكنة التي شكلت الحدث السياسي المعاصر. ما أود أن أقوله هو أن المدينة العربية بذاكرتها السياسية الجديدة مؤهلة للمزيد من الأمكنة المؤدلجة المستقبلية والمزيد من التشكيل الرمزي العمراني الذي يجعل من فضاءات المدينة ذات معنى ويجعل من المدينة مكانا للناس يمارسون فيه حياتهم ويعبرون فيه عن أفكارهم بكل حرية مفهوم "المكان العام" كان دائما له دلالاته السياسية لكنه لم يتطور بشكل واضح في المدينة العربية الحديثة، ربما لأن المجتمعات العربية مرت بفترة ركود سياسي عزلت المدينة وفضاءاتها عن العمل السياسي، فمنذ عصر الاستقلال في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، وحتى نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين كانت المدينة العربية مهمشة سياسيا، ولم يكن للجمهور العربي القدرة على الخروج في الشارع إلا بشكل محدود ولم يكن للميادين والأمكنة العامة أي دور سياسي "ذهني" واضح. على أن هذه المعادلة تغيرت، وأصبح المكان العام عنصرا سياسيا ماديا ورمزيا في نفس الوقت ويعكس معاني واضحة، فهناك فضاءات "مؤدلجة" وهي أمكنة تعبر عن مواقف سياسية وفكرية محددة لها أنصارها ولها من يذود عنها ويدافع عن حدودها. "الأمكنة المؤدلجة" تقسم المدينة إلى مساحات لها حدودها الواضحة وتحول الجغرافيا العمرانية إلى جغرافيا سياسية تجعل من المدينة عبارة عن "استقطابات" عمرانية/اجتماعية ذات ملامح فكرية لها "أيديولوجياتها" المحددة. إنها تفكك المدينة الواحدة إلى عدة مدن، ولعل هذا من طبيعة المدن المعاصرة التي توسعت وضمت كل الاطياف وتعقدت إلى الدرجة التي يصعب معها إدارتها "سياسيا" وفكريا. لذلك يجب أن تكون المدن الكبيرة، مدن "توافقات" و"تعايش" لأنه لا يمكن أن تعيش المدينة مفككة فكريا وجغرافياً فهي بحاجة إلى الاستقرار السياسي مهما طال وقت الخلاف. ويبدو أن المدينة العربية بدأت تكتشف نفسها وتتعرف على مناطق خلافاتها ومجالات توافقها وتعايشها، والاحداث الأخيرة التي تعيشها هي نوع من الاختبار لمقدرتها على التجدد والتحول إلى مدن تستطيع أن تتعايش مع الايديولوجيات المتعددة التي تقطنها. لو حاولنا أن نقيّم "المكان المؤدلج" في المدينة العربية، ربما نلاحظ أنه "مكان موجه" ولعله لم ينضج بعد، لكنه في طريقه للنضوج. هذه الأمكنة صارت تحمل صورا إيجابية وسلبية في نفس الوقت، فميدان التحرير ورابعة العدوية في القاهرة مثلا، صارا يشكلان فضاءات لها مواقف سياسية وفكرية محددة جعلت من القاهرة تتقسم ذهنيا في عقول سكانها ومن يعرفها وحتى من لايعرفها، فلغة المكان أصبحت سياسية بامتياز وتغلبت على اللغة العمرانية البصرية، بل إن المشهد العمراني نفسه غاب كليا وحل محله لغة سياسية موجهة ورمزية. وصار كل فريق ينظر للمكان الآخر نظرة سلبية فهو "المكان العدو" أو هو "المكان المعادي"، وهي مواقف طبيعية آنية لكنها ترسخ في أذهان الناس لفترة طويلة. "الأدلجة المكانية" قد تنقلب إلى حالة مكانية عنيفة وقاتله، وقد تتحول إلى مساحات رمزية يدافع عنها كل منتم لمكان ما بعنف وقد يصبح المشهد مأساويا، كما شاهدنا في الأحداث الأخيرة في رابعة العدوية. البعد الرمزي للمكان نفسه يصبح "مقدسا" لدى البعض فالدفاع عن حدوده كأنه دفاع عن حدود الوطن، ومن يقتحم هذه الحدود فهو "معتد أثيم" ويستحق أن يواجه ويمنع ويقاتل. ما يميز المكان أنه يختزن ذاكرته بعد انقضاء الاحداث، ويستمر في التعبير عن رمزيته السياسية مهما تحولت صوره العمرانية، فذاكرته السياسية لا تمحى ابدا حتى لو محيت ذاكرته العمرانية، أو حتى لو حاول البعض محو هذه الذاكرة لأنها تذكرهم بأحداث مؤلمة لا يرغبون في تذكرها، فتغيير معالم المكان لن يغير الذاكرة التي رسخت في الاذهان وستتناقلها الأجيال كحدث مر بهذه البقعة الجغرافية فعلى مر التاريخ تغيرت صور الامكنة لكن لم تذهب حكايات المكان وذاكرته وبقيت الاجيال تتوارثها وتحولها إلى أساطير. هذا الفرق بين "المادي العمراني" و الرمزي "السياسي الاجتماعي" هو الذي يجعل من المدينة في صورتها العمرانية متحولة، لكن في ذاكرتها تسير وفق حركة زمنية خطية تراكمية تصنعها الأحداث المتلاحقة وتزيد من عبقريتها وسحرها وتحث دائما للبحث فيها وعنها من أجل اكتشافها. على أن"المكان المؤدلج" لا يستمر في التمسك بمواقفه الفكرية إلى الأبد، فهو مكان قابل للإضافة فقد تتحول وظائفه وقد يوظفه البعض لأفكار جديدة وهذا ما يميز الأمكنة فهي ذات ذاكرة تراكمية فميدان التحرير حمل ذاكرتين في فترة قصيرة فهو رمز ثورة 25 يناير التي أطاحت بالرئيس مبارك وكانت المفاهيم التي قامت على تلك الثورة ذات بعد وطني توحد حولها جميع المصريين، وهو نفس المكان الذي قامت عليه حركة 30 يونيو التي قسمت المجتمع المصري وأطاحت بالرئيس محمد مرسي وشكلت أمكنة "ايديولوجية" جديدة في القاهرة. ميدان التحرير مؤهل للمزيد من تراكم الذاكرة والمزيد من الرمزية الفكرية فهو "مكان سياسي" والأمكنة السياسية ذاكرتها تراكمية ذات طبقات زمنية متعددة. ما أود أن أقوله هو أن المدينة العربية بذاكرتها السياسية الجديدة مؤهلة للمزيد من الأمكنة المؤدلجة المستقبلية والمزيد من التشكيل الرمزي العمراني الذي يجعل من فضاءات المدينة ذات معنى ويجعل من المدينة مكانا للناس يمارسون فيه حياتهم ويعبرون فيه عن أفكارهم بكل حرية. الميزة الكبيرة في احداث الربيع العربي أنه غيّر من مفهوم المكان في المدينة العربية وأعطاه بعدا سياسيا عميقا، وهي ميزة مهمة سوف تجعل من مفهوم "المكان العام" له معنى حقيقي بعد أن كان مهمشا وليس له أي دور سياسي واجتماعي. أنا على يقين أن نضج الأمكنة العربية هو دليل على نضج المجتمعات العربية فالاحداث تصنع الشعوب ومن يرى أن ما يحدث اليوم من فوضى هو أمر سلبي سوف تتغير نظرته في المستقبل عندما يرى أن هذه الأحداث صنعت توازنا سياسيا وفكريا وجيلا عربيا متعقلا واعيا بمسؤولياته..