أجمل ما تقودك له القراءة للعديد من الكتاب هو رؤية الحياة من زوايا مختلفة، وبفن وسرد جديد يحمل شفرة فكرية لا تتكرر، والغريب أنك تحصل أحياناً على نصوص وتتساءل: كيف يمكن لهاذا الفكر والإبداع أن يكون متوارياً ضيق الطرح؟ وهو الشعور الذي انتابني عند قراءة نصوص قصصية متفرقة للأستاذ ظافر الجبيري في ثلاثيته القصصية القصيرة، التي يستخدم فيها معايير معاصرة في السرد القصصي لا تخل بتمرده الإبداعي على تجاوز المألوف في الطرح والفكرة. "فقاعة" أدار الكاتب المشهد بين ساحتين متباينتين، ساحة منزلٍ لرجل عربي في آخر يوم من العمل مع أبنائه، وساحة الفردوس في بغداد عبر البث المباشر نهار سقوط بغداد. ثم تضيق الزاوية بالساحة الصغيرة حتى تصبح الصورة بين الطفلة التي تلعب بفقاعات صابونية، ووالدها المصدوم من منظر إسقاط التمثال البرونزي في ساحة الفردوس، ويرسم الصورة بخفة غير معقولة في الترميز والتشبيه بين فقاعة صابون الصغيرة وذلك الزعيم الذي أسقطه كثرة الانتفاخ والتورم الذاتي فحوله الى ديكتاتور. (وارتسم حزن بهيج على وجه صغيرة تداخلت لعبتها مع لعبة بعيدة .. لعبة لم تدم سوى بضع وعشرين سنة). ختم القصة الغزيرة المعاني كقصيدة فرح وحزن وخوف لا تستطيع أن تبدي دهشتك بأبعادها غير المرئية. ستجده يلامس بعمق ملامح إنسانية للشخص البسيط منطلقاً بلا تعقيد من أحداث يومية قد لا ينتبه لها أغلب الأشخاص، قد يصل بك نص "غريبة" الى أن تذرف دمعاً دون ممانعة لعمق وصفه لحياة خادمة تراقب عائلة مخدوميها في رحلة عائلية بسيارتهم، دون أن يشعر بها من حولها، كذلك نص "صباح" بطلته الخادمة المنسية مع تفاصيل حياة أفراد المنزل لمدة طويلة وبنفس الطريقة. "قصة الرواية، رواية القصة" قلما تلتقي بنصوص تجعلك تفكر كثيراً عن آلية عمل عقل الكاتب الذي ابتكر فكرة تلك النصوص، حيث النص ينطلق من خلف النص كما بين الأستاذ ظافر في هذه القصة القصيرة بسطورها المدهشة بكثافة مدلولاتها، يرحل بك في جزء من الخيال عبر شخصيات رواية لبطل القصة الذي وقع في مأزق تشابه أسماء عائلية بين أعماله والواقع، وينطلق بنا في شوط قصير مثقل بالجماليات الأدبية واللغوية والمختبئة خلف السطور. عرض حكايا فرح مؤمم "صعقني وجهٌ طالباني عائد من جوانتنامو. يا الله، أهكذا تفعل كوبا بأعداء أمريكا ؟! لا يجوز لي أن أقرأ هذه القصة مرة واحدة، فهي طويلة كالعبارة التي اقتبستها منها في البداية، واجتمعت فيها قبيلة الكاتب الجنوبي على أرض النماص صيفاً، بشكل ممتع ثري يسرد تلك المشاكل الأيدلوجية العميقة التي شكلت تحديات مرحلية في العشر سنوات الماضية، في سرده الذاتي الذي لم يتفق الروائيون بعد على تصنيفه الأدبي. تحمل هذه القصة معالم أرض ومفردات قبائل ومعاناة شعب تعرض للتهجير الفكري ووقع في حيرة بين الولاء والانتماء. اللغة الشعرية المسكوبة تنساب في الأقاصيص الصغيرة المثقلة بالرمزيات، والتي تبوح بهم الكاتب الاجتماعي والوطني، وبلورة فنية رصينة للفكرة والحوار بين الشخصيات والمنولوج في مساحات صغيرة، مما يجعلنا نأمل بوجود نص طويل لمثل هذا الكاتب المميز.