مسلسل غرابيب سود أحدث جدلاً واسعاً ليس لكونه عملاً درامياً ضخماً، بل لأنه تناول قضية حساسة للغاية وهي قضية داعش والتطرف. بغض النظر عن كون هذا العمل ركز الأنظار وأصابع الاتهام نحو عدو واحد وتناسى أعداء لربما كانوا أكثر وحشية وضرراً وفتكاً بالمسلمين من داعش ذاتها. وما زلت مقتنعاً بأنه لا يجدر بنا أن نحمل العمل الدرامي أكثر مما يطيق، كما لا يجدر به أن يقدم حلولاً لجميع قضايا المجتمع، ولكن ما أن يسلك هذا المنحى، فإنه يجدر به أن ينصف القضية أهميتها. قضيتي مع هذا المسلسل ليس كل ذلك، بل في عرضه للأسباب التي دفعت الناس للانضمام لداعش، لأنني أعتقد بأن هذه الجزئية هي التي من واجبنا كمجتمع التصدي لها وتوعية أنفسنا ومن حولنا بها. قبل أن استطرد في هذه النقطة، ركز هذا المسلسل على جزئية غريبة وهو الدافع الجنسي للانضمام، وهو سبب سطحي وسخيف وعارٍ من الصحة، ولا أعلم من ذا الذي يقطع الفيافي والقفار ويتجشم عناء مشقة الطريق وما يتبع كل ذلك من أخطار بسبب شهوة!! وهو تسطيح غير مقبول لقضية بمثل هذا الحجم. التشدد الديني من ضمن أسباب التطرف ولكنه ليس المهيمن كما يفسره البعض، المتطرف فرد في مجتمع تكوينه النفسي وتفاعله مع المجتمع عنصران أساسيان يساعدان على فهم أسباب تطرفه. المتطرف شخص محبط فقد إيمانه وثقته بنفسه، ونأى بذاته بعيداً عن المجتمع الذي لم يضع قدراً له في المقام الأول. يتراءى لمسامع هذا المحبط قضية مقدسة براقة، فتغريه كي ينتقل من عزلة ذاته التعيسة لوحدة الجماعة، فينصهر بها ويتبنى أهدافها ويرى في تحقيقها معنى أسمى لحياته البائسة، وتمنحه بذلك الدور الفاعل والثقة العالية والقيمة الرفيعة التي لم يمنحها إياه مجتمعه السابق. المجتمع بالنسبة لهذا الشخص ميؤوس منه، وهو كاره له وناقم عليه، ولكن عدم رضاه وسخطه على واقع المجتمع الحالي لوحده ليس عاملاً مؤثراً في عملية التطرف، فيشترط للعملية القدرة على التغيير وعدم الخوف أو الوعي بالعواقب. تُوهمه داعش بهدفها الأسمى أنها قادرة على التغيير، ولأنه في حالة نفسية هشة اقتنع بذلك بغير مبالاة أو وعي بعواقب ومغبة هذا القرار. فإيمانه بقدرتهم على التغيير وكونهم في نظره كتلة اجتماعية متينة منحا له شعوراً طاغياً بالقوة. في الوقت ذاته زرعت خطبهم الرنانة وشعاراتهم النبيلة في نفسه الأمل من جديد في إمكانية التغيير. ينشأ بناء على كل ذلك الولاء الأعمى للقضية التي توهموا قدسيتها. ولا يوجد ما هو أشد قوة من مؤمن بقضيته ومخلص صادق لها بذات مسلوبة مُسخرة تماماً للجماعة ولو عنى ذلك بأن تفنى لأجلها. أسباب ودوافع التطرف لا تزال في حاجة لسبر ولاستكشاف، وهشاشة تفسيره في المسلسل مخجلة وأتمنى ألا تكون تلك الهشاشة عاكسة لما في أذهان الناس. * محاضر في جامعة شقراء