من فضل الله -جلّ وعزّ- على وطننا الطاهر، أنه تم توحيده العظيم واستقراره العميم على يد بطل العروبة والإسلام الملك عبدالعزيز -طيّب الله ثراه- ورجاله المخلصين، وأضاف أنجاله الملوك أمجاداً إلى أمجاد، وخيرا على خير، حتى صارت المملكة مضرب الأمثال في الرخاء والأمن والاستقرار ومقصد الشعوب في طلب الرزق أو الهروب من الظلم. وقبل توحيد المملكة كان أجدادنا كثيري التغرب عن الأهل والولد والوطن بحثاً عن رزق أو هرباً من ذل وظلم، حيث كانت تسود الغارات ويختل الأمن وميزان العدل.. ولهم في ذلك أشعار كثيرة لأن الغربة نارٌ تُثير المشاعر. والعرب أمة أصيلة عزيزة يكرهون الذل كره العمى، ويعشقون السفر مهما كان الثمن، ولهذا كثرت أسفارهم وتغربهم في قديم الزمان، إمّا هرباً من ذلٍّ لا يطيقونه، أو بحثاً عن رزق يريدونه، ولهم في ذلك أمثال وأشعار. كانت بلادنا طاردة بسبب الخوف والجوع وصارت جاذبة بسبب الأمن والرخاء والعرب - منذ القدم - مشهورون بالحل والترحال وتواتر الأسفار، فرحلات قريش في الشتاء والصيف مشهورة واردة في الذكر الحكيم، ووفود العرب معروفة، وأسفارهم في طلب الرزق قديمة، كما أن طبيعة حياتهم غير مستقرة، خاصة حياة البادية التي يتبع أهلها مساقط القطر ومنابت الكلأ، فليس لهم مكان ثابت، ولا عنوان معروف. وتغريبة بني هلال - وسبق أن كتبت عنها هنا - وأيضا (رحلة العقيلات) من قلب نجد، إلى الهند والشام ومصر، وهي رحلة جمعت التجارة والثقافة والحضارة، ونقلت لقلب الجزيرة كل تلك القيم الهامة جدا تشهد بذلك. وربما كان هذا من أسباب الحض على السفر والتَغرّب، في شعرنا الفصيح والشعبي، فقد كان السفر يجري في دماء العرب منذ مئات السنين.. في رحلات إما لطلب الرزق أو العلم أو هرباً من موقف ذل، أو طلباً للسياحة والراحة والتعرف على بلاد الله الواسعة، حيث تتسع الآفاق، وتتلاقح الثقافات، وتتنقل المأثورات الشعبية على ألسنة المسافرين. والآن.. بل ومنذ عدة سنوات.. نرى نيران الفتن تشتعل في كل مكان.. ونرى الناس يُتَخطَّفَون من حولنا.. وينزحون من أوطانهم مجبرين خائفين، فمنهم من يموت في الطريق، ومنهم من يلجأ كمتشرد طريد.. وظلّت المملكة طوداً شامخاً في الأمن والأمان، والاستقرار، والرخاء والازدهار، بفضل الله عز وجل، ثم بفضل حكمة القيادة الراشدة التي تطبق شرع الله المطهر، وتُقدم الخير والإغاثة والإعانات لكل المستضعفين في الأرض والمنكوبين والجوعى والمرضى، ويعيش على ثرى المملكة ملايين من العرب.. والمسلمين.. ومختلف البشر في أمن وأمان ورخاء وازدهار. إن هذا ليضاعف مسؤولياتنا في وجوب شكر المولى عز وجل على أنعمه السابغة على وطننا أنعمه الظاهرة والباطنة، وأن نبعد عن التبذير والإسراف، والكراهية والإقصاء ونظل كما كنا إخوة متحابين متضامين حريصين على أمن الوطن واستقراره فهو -والله- وطن يستحق ذلك وأكثر. ومما ورد في الرحلة والسفر - وهذا الشعر يعتبر شعبياً لأنه سهل سائر على الألسن وارد في (ألف ليلة وليلة): إِذا ما ضاقَ صدرُكَ من بلادٍ ترحلْ طالباً أرضاً سِواها عجبتُ لمن يقيمُ بدارِ ذلٍ وأرضُ اللّهِ متسعٌ فَضَاها فذاكَ من الرجالِ قليلُ عقلٍ بليدٌ ليس يعلم من طحاها فنفسَكَ فزْ بها إِن خِفْتَ ضَيْماً وخَلِّ الدارَ تَنْعى من بناها فإِنكَ واجدٌ أرضاً بأرضٍ ونفسكَ لن تجد نفساً سواها ويقول أبو تمام: لا يَمنَعنّك خَفض العَيشِ في دِعة مِن أَن تَبَدّل أَوطاناً بِأَوطانِ تَلَقى بِكُلّ بِلادٍ إِن حَللتَ بِها أَهلاً بِأَهلٍ وَإِخواناً بِإِخوانِ ولشاعرنا الشعبي بديوي الوقداني (سنوات الفقر): عفت المنازل وروحي يوم اجنّبها منها غنيمه وعنها البعد أولا لي لا خير في ديرةٍ يشقى العزيز ابها يمشي مع الناس في همٍ وإذلالي دارٍ بها الخوف دومٍ ما يغايبها والجوع فيها ومعها بعض الاحوالي عز الفتى راس ماله من مكاسبها يا مرتضي الهون لا عزٍّ ولا مالي خل المنازل وقل للبين يندبها يبكي عليها بدمع العين هطالي لا تعمر الدار والقالات تخربها بيع الردي بالخساره واشتر الغالي ما ضاقت الأرض وانسدت مذاهبها فيها السعه والمراجل والتفتالِ دارٍ بدار وجيرانٍ نقاربها وارضٍ بأرض وأطلالٍ بأطلالي والناس اجانيب لين إنك تصاحبها تكون منهم كما قالوا بالأمثالي الارض لله نمشي في مناكبها والله قدر لنا أرزاق وآجالي حثّ المطايا وشرِّقها وغرِّبها واقطع بها كل فجٍّ دارسٍ خالي واطعن انحور الفيافي في ترايبها وابعد عن الهم تمسي خالي البالي من كل عمليةٍ تقطع براكبها فدافد البيد درهامٍ وزرفالي تبعدك عن دار قومٍ ودار تقربها واختر لنفسك للمنزال منزالي ما قرت الاسد في عالي مراقبها تسعى على الرزق ما حنّت للاشبالي