لم يكن جديداً خروج أبناء الجزيرة العربية إلى مصادر الرزق ومراكز العلم أينما لاحت بارقة أمل للكسب المادي أو المعنوي، فقد كانت هذه البلاد جنة ما جاء المطر وجحيماً ما احتجب، حتى كشفت الأرض عن خزائنها وكنوزها من البترول، وجادت مواردها بعائدات كانت عاملاً فاعلاً في نهضتها الشاملة منذ قيام وحدة أجزائها وتوحيد مسماها (المملكة العربية السعودية) على يد الملك عبدالعزيز آل سعود رحمه الله. ومن هنا أصبحت بلادنا مهوى الأيدي العاملة من كل بقاع الأرض، ومشع أمل للرواد والوراد. يا أهل الهوى حذرا تمرون خيطان الموت فيه مركزات خيامه وأصبح خروج أبنائها إلى البلاد المجاورة والبعيدة إما لطلب العلم أو الطب أو النزهة أو تنمية نشاطاتهم الاقتصادية. كانوا يسافرون جائعين خائفين يلتمسون المردود الطيب لهم ولأسرهم يحدوهم قول الوقداني: صوّب ارض الشام أو أرض العراق عل يومٍ فيه ينحلّ الوثاق كم نقاسي والقسا مر المذاق ربما نلقى عن المنزل بديل وقوله: حث المطايا وشرقها وغرِّبها واقطع بها كل فجٍ دارسٍ خالى واطعن نحور الفيافي في ترايبها وابعد عن الهم تمسي خالي البال وقوله: ما ضاقت الارض وانسدت مذاهبها فيها السعة والمراجل والتفتّال دار بدار وجيران نقاربها وارض بأرض واطلال بأطلال والناس اجانيب لين انك تصاحبها تكون منهم كما قالوا في الامثال شارع فواد اللي يقولون جيناه اللي يقول «اللوح» فيه ادفنوني على أن الوقداني ينصح بالحكمة والمعروف كل من أقدم على التغرب بحسن اختيار الأصدقاء والمحافظة على حسن الخلق، والبعد عما يعيب. أما وبعد أن تغيرت أهداف السفر وامتلك السَّفْر المال فظن بعضهم أن المال يواري العيوب ويحمي أصحابه فابتعد كثير منهم عمن كان الوقداني ينصح بجواره ومصاحبته، وكانت مغريات المال تساهم في الاخلال بالقيم المرعية هنا وهناك. كما كانت البيئات الجديدة في مرحلة تحولات وتطلعات إلى حياة جديدة ذات قيم مختلفة. وكانت طلائع المسافرين للنزهة أو المهام الأخرى ينزلون أسياداً لا باحثين عن مصدر رزق (إن الفراغ والجدة) فهم يعبرون الشوارع مذهولين بما يرون من تقدم ومن عادات الناس، وكانت المرأة العاملة والعابرة على خلاف ما عهدوا في ديارهم التي لا يرون فيها من المرأة غير سواد متحرك، وهنا يرون القوام الأملود والأعين النجل والشعر المتهدل والسيقان الممشوقة واللباس المجسد للبدن والوجه المبتسم في جلال الحرية الاجتماعية المهداة من مجتمع يكل لكل إنسان أمره أين يضع نفسه ويختار لها، فعبر الشعراء عن المفاجآت المذهلة، وكان قائدهم الشاعر عبدالله لويحان صاحب القصيدة المشهورة (لا مت في شارع فؤاد ادفنوني) والتي أشرنا إليها في مقال سابق، وتناقلها الشعراء وعارضها بعضهم، ومنهم الشاعر إبراهيم بن مزيد رحمه الله الذي أيد فيها لويحان رحمه الله فقال: شارع فواد اللي يقولون جيناه اللي يقول «اللوح» فيه ادفنوني قوله حقيقه ما روى عنه شفناه أشهد وكل اللي معي يشهدونِ سيل من العالم بالاقدام تاطاه أجناس واشكال على كل لونِ اطلب تجد واللي تبي فيه تلقاه لا شك باصنافه يحير الزبونِ إلى قوله: واعمري اللي راح كله مقازاة عشت برجا واقول كُلِّشْ يهونِ واثر العرب في جنة الله بدنياه وانا حياتي كلها في غبونِ يا رب تعطيني على ما اتمناه أسعد مع اللي بالهوى يسعدونِ والشاعر تثيره الغرائب، وما لم يألف من قبل، وابن مزيد شاعر كبير، وقد ختم أبياته بدعاء إلى الله أن يهبه من يسعده. وشارع فؤاد الذي يتوسط مدينة القاهرة فيه من المعارض الحافلة بكل جديد من ابداعات المصانع المصرية والأجنبية ورواده من الفئات التي وهبها الله سعة من الرزق، وكان الشارع فيما قبل ستين عاما يغسل بالصابون يومياً. شارع فواد وابن مزيد يغادر القاهرة إلى دولة الكويت التي كانت سباقة إلى الأخذ بتقاليد العصر الجديد في كل مناحي الحياة منتقلة من تقاليد البداوة التي تغلب على مجتمعها إلى المعاصرة ثقافيا وإداريا ففيها المسرح والسينما والأسواق المفتوحة وكل مظاهر الحياة المختلفة عن دول الخليج الأخرى. لذا عند ما زارها الشاعر ابن مزيد أثارته بعض المشاهد التي كثيرا ما تثير الشعراء فقال: يا اهل الهوى حذرا تمرون خيطان الموت فيه مركزات خيامه فيه المهار اللي بلا سرج وعنان بنحورهن لاهل المودة علامة إلى قوله: بغيت اطيح بدربهم يا ابن رجعان لولا الله ابرك جارني بالسلامه لولاي صايم والعرب في مسيّان واخشى يقال فلان خرب صيامه إلى قوله: يا ابو فهد كمَيْتْ جرحي على شان ما يلحق النفس العليلة ملامة والأبيات كما أوردها "عبدالله لويحان" في كتابه روائع من الشعر النبطي، هي أكثر وهو يشيد بجمال أهل حي خيطان من مدينة الكويت، وليس بغريب أن تتحرك مشاعر الشاعر لمشاهد العربيات المنتقلات من حياة الصحراء إلى المدينة وقد أخذن بمظاهر الحضارة التي لم تفقدهن ملامح الأصالة وما زلن مهاراً وحرائر كما قال الشاعر. ولابن مزيد قصيدة مطلعها: لقيت الناس ما منهم سلامة لزوم يلحقك منهم ملامة ومنها: ألا يا ليت ربي يوم سوَّى عبيده حط للطيب علامة على شان الذي بالناس جاهل يعرف الحر من برق الجهامة ولكن الله ستار يعين خلقه على التحلي بحسن الخلق ولا يفضح الشاذ منهم، وإعطاء الفرصة له واجب أحق من وشمه بالسوء حتى يتخلق بأخلاق الأسوياء وابن مزيد شاعر عرف الغربة والتاع منها وحسبنا أبياته المغناه: غريب الدار لا تبحث كنينه على ما فيه جعل الله يعينه إلى قوله: تعرفون الغريب الى تذكّر بلادينه وربع عارفينه وهو في دار قوم ما تعرفه كلامه عندهم مثل الرطينة وهي أبيات كثيرة تنطق حكمة، وتفيض ألماً بحالة الغريب. رحم الله الشاعر.،