لا تهدأ الضجة التي أثارها الفيلم البريطاني الوثائقي القصير «الخوذات البيضاء» والذي من إخراج المخرج البريطاني أورلاندو فون إينسيديل Orlando von Einsiedel من مواليد عام 1980. الخوذات البيضاء يعد بحق ملحمة إنسانية وسط الموت والعنف الجحيمي الذي اندلع في مدينة حلب عام 2016 وانتهى بمحق المدينة وتحولها لمدينة أشباح. الفيلم يتمحور حول ثلاثة من عمال الإنقاذ والذين خاطروا بحياتهم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من حياة المدنيين المتعرضين للقصف في جحيم الحرب التي لا تميز بين مدني وعسكري. الفيلم يستقي اسمه من الخوذات البيضاء التي يعتمرها المنقذون مندفعين تحت القصف غائصين في أنقاض البيوت المهدومة على رؤوس أصحابها ينتشلون جريحاً من هنا وأشلاء من هناك في مشاهد بطولية تفوق في خطورتها وروعتها أقصى قصص الخيال، مخاطرات تعيد الثقة في القوى الروحية الخيرة للبشر المتمثلة في أفعال هؤلاء العمال الثلاثة، الفيلم هو الواقع الذي يعيشونه مع الضحايا التي يندفعون لإنقاذهم بلا تردد وبلا حساب للعواقب ولا لسلامتهم الشخصية. نتوقف هنا بمخرج هذا الفيلم العبقري Orlando von Einsiedel والذي تميز نتاجه بالمغامرة التي لا تقل بسالة عن بسالة أبطال أفلامه الواقعيين، مسيرة بطولية وفهم عميق للبشر وخصوصيات البلاد نال عليها إينسيديل الكثير من الجوائز في أهم مهرجانات السينما العالمية تحية لنتاجه الذي يتنوع متنقلاً في مواقع من العالم لاتخطر على بال، متتبعاً بحسه العميق بالإنسان والأرض قصصاً اجتماعية تفوق الخيال ممتدة بين القارات أميركا وأفريقيا وآسيا والقطب الشمالي، متجولاً بعينه الفنية المتعاطفة ملتقطاً كل ما هو جميل حتى في قاع البؤس واليأس، ابتداء من فيلمه الوثائقي الشهير المسمى فيرونغا Virunga الذي أخرجه عام 2014، حيث قام بالتحقيق في القصة البطولية لأربعة من حماة البيئة في المتنزهات في حديقة فيرونغا الوطنية في جمهورية الكونغو الديموقراطية، فيرونغا التي تعد من محميات اليونسكو بصفتها من مواقع التراث العالمي المهمة لكونها آخر موطن لغوريلا الجبل المهددة بالانقراض في عالمنا والتي لم يبق منها غير 880 غوريلا فقط على سطح الأرض، ويتابع الفيلم هؤلاء الحراس الذين يخاطرون بحياتهم لإنقاذ الغوريلا التي تتهددها بالانقراض عوامل عديدة مثل الصيد غير المشروع أو شركات التنقيب عن النفط أو الحرب التي اندلعت خلال صعود التمرد العنيف لحركة 23 مارس 2012، ولقد خاطر المخرج أورلاندو بحياته في متابعته لبطولات أولئك الحراس وقيامه بالتحقيق في نشاط شركة النفط البريطانية سوكو إنترناشونال والتي قامت بالفعل باستكشاف فرص النفط رسمياً في موقع التراث العالمي فيرونغا ذاك في أبريل 2014، ويعد الفيلم تحفة فنية جنباً إلى جنب مع العنف والنزاع المسلح والقضايا السياسية والاقتصادية المعقدة بالمنطقة، يركز الفيلم على الجمال الطبيعي والتنوع البيولوجي في فيرونغا والتي ذهب ضحية لحمايتها مئات الحراس دون أن يمنعهم ذلك من مواصلة الصراع لحماية هذا النوع النادر من الحياة. وتنوعت أفلام أورلاندو بعد ذلك لتغطي بطولات متنوعة مثل فيلمه الذي يتعمق في ملاحقة واعتقال القراصنة بشرق أفريقيا، أو فيلمه الذي يتابع قصة مدرسة ألواح التزلج في كابولبأفغانستان والتي أسسها الأسترالي أوليفر بيركوفيتش Oliver Percovich عام 2007، المدرسة التي يعتقد بأنها قد غيرت وجه أفغانستان الطالبانية بتدريبها الفتيان والفتيات على ركوب ألواح التزلج كوسيلة للمواصلات بالإضافة لدورها الترفيهي، بل وتعتبر منظمات حماية حقوق الإنسان هذه المدرسة الفريدة من نوعها في بلد تخضع فيه المرأة بشكل كامل لسيطرة الرجل وسيلة من وسائل تمكين المرأة ومنحها حقها كفرد فاعل وند للرجل في الحصول على الحقوق العامة والمساهمة في الأنشطة الحيوية في تطوير المجتمع. وفي حوار مع أورلاندو فون إينسيديل عن دافعه لتصوير الأفلام الوثائقية أجاب ببساطة قائلاً، «إنها تجعلني رجلاً سعيداً.» وسعادته نابعة من نجاحه في ضم قدرته على تقصي الحقائق الصحافية لموهبته الفنية للنبش عن المدهش الإيجابي في العادي الأقرب للسلبية، وتوظيفه لتلك الأفلام كوسيلة لاكتشاف البشر الرائعين المتوزعين بمواقع من العالم تسود عنها انطباعات سلبية، وحمل قصص حياتهم الفريدة ومشاركتها مع الجمهور العالمي مما يساهم حسب ما يتمناه في جعل عالمنا أفضل بعض الشيء، عالم يثرى بالتناقضات ويوظف الفقر والغنى والجشع والأمل والسلام والحرب والسجن والحرية في خلق حبكات إعجازية تضيف لسحره وسحر الطبيعة البشرية بكل تطرفها. ويعد أورلاندو فون إينسيديل مناضلاً في قضايا إنسانية وبيئية شتى، ولا يكتفي بالنضال من خلال أفلامه الوثائقية التي تحصد الاهتمام وتلفت الأنظار للقضايا المهمة المهمشة وإنما أيضاً قام بتشكيل جماعة نضالية على شبكة الإنترنت تتلقى الاقتراحات والشكاوى وتسارع للتحقيق فيها عالمياً. أفلام إينسيديل تستحق المشاهدة ومتوفرة على نت فليكس.