الشيخ العالم الداعية أحمد بن إبراهيم بن حمد بن عيسى، ينتهي نسبه إلى قبيلة بني زيد، القبيلة القضاعية المشهورة، ولد في موطن آبائه شقراء يوم الخميس العاشر من ربيع الأول عام 1253ه، ونشأ في كنف والده العلامة إبراهيم بن عيسى، فرباه تربية حسنة وغرس في قلبه حب العلم وأهله، فحفظ القرآن وتعلم مبادئ الكتابة والقراءة، ثم شرع في طلب العلم بهمة عالية، ورغبة صادقة، وقرأ على والده التوحيد والفقه والحديث والأصول. كان للشيخ أحمد مكانة مرموقة عند العلماء وطلبة العلم لما اشتمل عليه من أخلاق فاضلة ومعاملة صادقة وورع حيث وصف بأنه نقي القلب تقي اللسان، من الفحش بري ومن الخير دني، حتى إنه أشار على الشريف عون بن محمد رحمهم الله جميعاً بأن يهدم القباب المبنية على القبور في مكةوجدة والطائف، فأزالها الشريف اقتناعاً وتصديقاً لما أشار إليه الشيخ أحمد واضطر إلى إبقاء بعض القباب التي أرجأ أمر إزالتها حتى يجد الوقت المناسب لذلك، لأن مثل هذه التصرفات من حكومات الأشراف المتتابعة كانت تغيظ بعض سلاطين الدولة العثمانية. وطلب ابن عيسى العلم على يد الكثير من العلماء، على رأسهم والده الشيخ إبراهيم بن عيسى، وعلامة نجد ومفتيها الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن أبابطين، كما نهل من علم علماء مكةالمكرمة، وأخذ منهم الكثير بعد انتقاله إلى هناك حيث تفرغ للعبادة وطلب العلم على يد علماء المسجد الحرام. رجل الصدق والأمانة..عمل في القضاء والتجارة وطلب العلم حتى وفاته قضاء المجمعة أصبح الشيخ أحمد بسبب علمه وعقله ونصحه مقرباً من الشريف عون يجله ويقدره ويعرف له فضله وحقه وهو مقيم في مكة لبث العلم ومباحثه العلماء والعبادة، كما أنه مارس التجارة وكان ثقة ومحل أمانة إلى أن عاد إلى نجد بعدما توفي صديقه المقرب الشريف عون سنة 1323ه فاستقر بنجد وولاة الأمير عبد العزيز بن متعب بن رشيد المعروف بلقب «الجنازة» قضاء المجمعة وجميع مقاطعة سدير، فبقي في قضاء مقاطعة سدير حتى وفاة الأمير عبدالعزيز بن متعب «رحمه الله» ودانت المجمعة للملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود، وذلك سنة 1324ه فعزله الملك عن القضاء وولي مكانه الشيخ عبدالله بن عبد العزيز العنقري، وكان الشيخ أحمد بن عيسى عادلاً في القضاء مشكور السيرة وكان له ختم نقش عليه عبارة: الفقير إلى العليم أحمد بن إبراهيم. رحلة التجارة كان الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى تاجراً في بيع الأقمشة يتحرى الصدق والأمانة والوفاء بالعهد، وينتهز الفرص لدعوة وإرشاد من يتعاطى معه التجارة، وكان يتردد بين جدةومكة لشراء الأقمشة من الشيخ عبدالقادر بن مصطفى التلمساني، أحد تجار جدة ومن ذوي الأملاك في مصر، وكان يدفع له أربعمائة جنيه ويشتري بألف ويسدد الباقي أقساطا، بكفالة مبارك المساعد من تجار عنيزة بالقصيم، والذي كان يمارس تجارته بمدينة جدة، وكان لصدق الشيخ أحمد بن عيسى، وأمانته ووفائه أثر طيب في نفس الشيخ التلمساني فقال له ذات يوم: أني عاملت الناس أكثر من ثلاثين عاما فما وجدت أحسن من التعامل معك، ويظهر أن ما يشاع عنكم يا أهل نجد مبالغ فيه من خصومكم السياسيين بسبب الحروب التي وقعت بينكم وبين الباشا، فقد أشاعوا عنكم أقوالا منكرة، فسأله الشيخ أحمد أن يبينها له، فقال له الشيخ التلمساني: يقولون إنكم لا تصلون على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تحبونه، فأجابه الشيخ أحمد: سبحانك هذا بهتان عظيم، كيف ونحن نعتقد أن من لا يصلي عليه في التشهد الأخير صلاته باطلة، ونعتقد أن من لا يحبه كافر، وإنما نحن أهل نجد ننكر الاستغاثة والاستعانة بالأموات، لا نستغيث إلا بالله وحده ولا نستعين إلا به سبحانه، كما كان على ذلك سلف الأمة، واستمر النقاش بينه وبين التلمساني ثلاثة أيام وأخيرا اقتنع الشيخ التلمساني بما قاله له «ابن عيسى»، ثم أن الشيخ التلمساني طلب منه أن يوضح له وجه الخلاف بينهم وبين خصومهم في باب أسماء الله وصفاته فقال الشيخ أحمد: إنّا نعتقد أن الله فوق سماواته بائن عن مخلوقاته مستو على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته من غير تشبيه ولا تجسيم ولا تأويل، وهكذا اعتقادنا في جميع آيات الصفات وأحاديثها، كما جاء عن الإمام أبي الحسن الأشعري في كتابيه «الإبانة في أصول الديانة» و»مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين»، ودامت المناظرة بينهما في هذه المسألة خمسة عشر يوما لأن الشيخ التلمساني كان أشعريا وقد قرأ كتب العقائد الأشعرية، السنوسية وأم البراهين وشرح الجوهرة وغيرها وقد انتهت هذه المناظرات الطويلة باقتناع الشيخ التلمساني بما ذكره صديقه الشيخ أحمد بن عيسى، وكان الشيخ التلمساني عالماً فاضلاً يبحث عن الحقيقة أنّا وجدها. وصار الشيخ التلمساني - رحمه الله - من دعاة العقيدة السلفية وطبع على نفقته كتباً كثيرة كان يوزعها مجانا، مثل «الصارم المنكي في الرد على السبكي» لابن عبدالهادي، و»الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية» المعروفة بالنونية للإمام ابن القيم، والاستعاذة من الشيطان الرجيم» لابن مفلح، و»المؤمل في الرجوع إلى الأمر الأول» لأبي شامة المؤرخ الدمشقي، و»الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان» للإمام أحمد بن تيمية، و»الرد الوافر» لابن ناصر الدين الدمشقي، و»غاية الأماني في الرد على النبهاني» للسيد محمود شكري الألوسي البغدادي. مراسلاته وقد مدح الشيخ أحمد كثيراً من العلماء الأجلاء، نظماً ونثراً منهم الشيخ ابراهيم بن صالح بن عيسى الذي قال فيه قصيدة هي: لقد بان من تهوى فهل لك منجد وقد وَدَّعَتْ سعدي فهل لك مسعد فقلبك من حر الغرام متيم وجفنك من فقد الحبيب مسهَّد وتذري إذا غنت مطوقة الحمى دموعا حكاها اللؤلؤ المتبدد وإن ذكروا أطلال نجد ورامة علا فوق اقطار العذيب تنهد رعى الله من هام الفؤاد بحبها وشَبّت لهيبا في الحشا يتوقد عزيزة وصل يخجل البدر وجهها كعاب لها الشمس المنيرة تحسد لقد فضلت كل الحسان بحسنها كما فضل السادات ذو المجد أحمد هو الماجد المفضال لله دره حميد السجايا في المكارم أوحد إمام حوى علما وحلما وعفة وزهدا ونسكا فضله ليس يجحد غزير المعاني لوذعي مهذب أديب أريب ألمعي مسدد كريم حليم شأنه الجود والوفا وبحر خضم غالب ثم مزيد أزاح قتام الشرك منه بنبذة لها الوحم ردء والحديث مؤيد بقيت ابن إبراهيم للدين ناصرا تناضل عن دين الرسول وتَنْهَدُ وقال أيضاً فيه كاتباً من أشيقر والشيخ أحمد إذ ذاك في بلد المجمعة قاضيا على بلدان سدير سنة 1317ه: هو الفتى نجل إبراهيم من فخرت به العلوم على التفصيل والجمل هو الإمام الفقيه الحبر قدوتنا أكرم به من إمام سيد بطل مؤيد راسخ في العلم متبع أثر المطهر طه خاتم الرسل وفي عام 1302ه حين اضطربت الأحوال في بلاد نجد وما جاورها من البلدات كتب الشيخ أحمد بن عيسى قصيدة لأمراء آل سعود يحثهم على اجتماع الكلمة في قصيدة مطلعها: متى ينجلي هذا الدجى والدياجر متى ينتهض للحق منكم عساكر ألم يك للأسلاف منكم مناقب ألم يك للأخلاف منكم مفاخر أيا مفخر العوجاء ذوي البأس والندى أجيبوا جميعا مسرعين وبادروا طلبه للعلم طلب الشيخ أحمد بن عيسى العلم على يد عدد من العلماء الأجلاء، وعلى رأسهم كان والده الشيخ إبراهيم بن عيسى، وعلامة نجد ومفتيها الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن أبابطين، كما نهل من فيض علماء مكةالمكرمة، وأخذ منهم الكثير حيث ارتحل إلى بيت الله العتيق وتفرغ هناك للعبادة وطلب العلم وشرع في التزود منه على يد علماء المسجد الحرام، حيث قرأ على العالم الجليل محمد بن سليمان الشافعي المكي، والشيخ العالم حسين بن محسن الأنصاري الهندي، والمجاور في تلك الايام بمكةالمكرمة، والشيخ العلامة المحقق حسين بن محسن الأنصاري الخزرجي، ثم سافر للرياض وكان فيها العالمان الجليلان الشيخ عبدالرحمن بن حسن وابنه العلامة الشيخ عبداللطيف، فأخذ عنهما وتقدم بما وهبه الله من حرص ومثابرة على طلب العلم على عدد من أقرانه لا سيما في التوحيد بأقسامه الثلاثة والفقه على مذهب الإمام أحمد. مؤلفاته وبجانب نشاط الشيخ أحمد بن عيسى في الدعوة إلى الله باللسان كان يدعو بقلمه إلى ضرورة التمسك بالتوحيد ودعم أهله ومحاربة الشرك وجنده وقد ترك حول ذلك مؤلفات نفيسة منها «توضيح المقاصد وتصحيح القواعد، شرح النونية لابن القيم»، قال الشيخ عبدالله بن جبرين فيه» وهو من أنفس الشروح وأجل الكتب في هذا الفن»، وكتب الشيخ أحمد في مقدمة شرحه: «ولما كنت قد نبغت في الفنون قديمًا، وصبغت بها أديمًا، وكنت للكتب وأرباب الكتب سميرًا وبرعت في تلك العلوم، وكرعت في رحيقها المختوم، عَنّ لي أن أضع عليها شرحًا يفتح مغلقها ويقيد مطلقها، وذلك مع تراكم الأشغال، وتبليل البال، ومع ذلك كان تحرير هذا الشرح في حال غيبتي عن كتبي التي هي رأس مالي وعيبتي، إلا أن الله سبحانه، بفضله أعان، وأمد بأسباب لم تخطر على بال». ومما يروى عن مآثر الشيخ أحمد بن عيسى ما ذكره الشيخ العلامة سليمان بن حمدان أنه كان جالساً يوماً عند الشريف عون فمر ذكر أصحاب الطرق وما يفعلونه من الأذكار المبتدعة، فقبح الشيخ فعلهم وقال إنها أمور مبتدعة لا أصل لها في الشرع، وفيها استهانة بذكر الله وأسمائه، وذكر للشريف عون مثالاً أقنعه به، ففرق شمل أصحاب الطرق ولم يترك منهم أحد يجتمع على شيء من ذلك. ومن مؤلفاته أيضًا «تنبيه النبيه والغبي»، طبع ضمن مجموعة كتب طبعها «الكردي» عام 1329ه، و»خلاصة الكلام في بيان أمراء البلاد الحرام»، و»تهديم المباني «، و»الرد على شبهات المستعينين بغير الله»، وهو رد على داود بن جرجيس العراقي. أخلاقه ومآثره عرف عن الشيخ أحمد بن عيسى -رحمه الله- التواضع ولين الجانب، حتى أنه إذا طلبه الشريف أرسل مع خادمه حصانا ليركبه فيأبى، إلا إذا كانت المسافة بعيدة، فإذا ركب حرص على أن يركب في المواضع التي لا يمر فيها على أحد، فاذا قارب الأسواق نزل وذهب ماشياً على قدميه، وأمر الخادم أن يذهب بالحصان. ويُذكر أنه كان مكبًا على المطالعة والتصنيف وإذا مر على شيء يحتاج إلى توضيح أو تعقيب أو رد، كتب عليه بخطه الواضح الذي لا يشتبه بغيره. تلاميذه ومن تلاميذ الشيخ أحمد بن عيسى الذين أخذوا عنه العلم، الكثير في نجد والحجاز، منهم الشيخ عبد الستار الدهلوي، والشيخ أبو بكر خوقير الحنبلي، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، من كبار علماء نجد، حج ومكث ستة أشهر يقرأ فيها على الشيخ أحمد «الروض المربع شرح زاد المستقنع»، وسماحة الشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ رئيس القضاة سابقا، والشيخ عبدالقادر التلمساني، والشيخ صالح بن عثمان آل قاضي، قاضي مدينة عنيزة، والشيخ عبد الله الرواف من علماء بريده، والشيخ محمد بن مبارك قرأ عليه طويلاً وأجازه، والشيخ صالح بن عبدالرحمن الدويش من أهل الزلفى قرأ عليه في مكةالمكرمة، والشيخ عبدالله بن حميد مفتى الحنابلة بمكة، كما قرأ عليه الشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى المؤرخ المشهور وذلك في مدينة شقراء. وفاته توفي الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى بعد صلاة الجمعة في اليوم الرابع من جمادي الثانية من عام 1329ه، في بلدة المجمعة بسدير، وصُلي عليه في جامعها بعد العصر، أمّ الناس عليه الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العنقري، وشيعه الكثير ودفن في مقبرة حويزة -رحمه الله- كما صليت عليه صلاة الغائب في عدد من البلدان، ويُذكر أنه خلف أبناء منهم من سار على نهج والده في طلب العلم، وأصبح لاحقًا قاضيا في بلدة العلا، ثم أحيل إلى التقاعد، ولهذا الإبن عدد من الأبناء الذين سلكوا مسلك أبيهم وجدهم الشيخ أحمد بن إبراهيم العيسى رحمه الله رحمةً واسعة. تولى ابن عيسى القضاء وكان عادلاً بين الناس عرف الناس ابن عيسى صدوقاً ومتواضعاً في تعامله معهم ارتحل الشيخ أحمد كثيراً لطلب العلم منصور العساف