في ليلة حالمة كان هناك عازف.. عازف على أوتار الحياة ينبض بمعاني (الجمال).. كان نحاتاً يستعد لحياكة الجمال على قطعة خلت من الحياة ليجعل منها قطعة تتكلم عن روعة الاتقان.. فرش النحات سجادته الخضراء ليبدأ.. انحنت هامته ويداه وهو يشيّد خطوط الجمال.. تمنيت ليلة حالكة السواد ليس فيها قمر.. كي لا يبعثر ضوء القمر لحظات الجمال.. لحظة سكون وسلام.. مثل صمت عاكف في معبد.. أو صمت شاعر يرتب قصيدة.. صمتٌ جميلٌ طوق اللحظة.. وطائرٌ هبط من الأعلى وخفض جناحيه ليكون شاهداً على ريشة النحات وهي تحفر أخاديد أبدية على صفحة الأيام.. صمتَ البلبل عن التغريد منصتاً للحظة.. لم تجد الحمامة غصن زيتون تحمله، لأن السلام كان يلف الأرض في تلك اللحظة.. وغيمة تعزف بالمطر لتروي عطش القلوب.. جلس النحات في معبده والكلُ مشدودٌ إلى تفاصيل حكاية لم تنته بعد.. الكل مشغولٌ بذوبان الإبداع والإتقان معاً.. كانت خطواته الأولى كخطوات طفل بدأت أقدامه تداعب حبات الرمل.. خطوات خفيفة جميلة تنعش الروح وتزرع في النفس أهازيج الفرح.. وفي لحظة.. توقفت ريشة النحات عن التفاصيل.. ليستعيد أنفاسه اللاهثة ويسمع دقات قلبه التي ذابت بين أنين ريشته والصخرة.. هرب النحات من عالم الضجيج إلى عالم السكون.. لينسج حكاية تظل أبديه ويظهر لوحة تبهر العليل.. غابت الشمس وراء الغيمة وأعلن الغسق القدوم.. خرجت من بين يديه صخرة ناطقة بعد أن كانت صماء لا حياة فيها.. كانت لحظة ميلاد ربيع وسلام توجت بيديه.. الكل بكى جمالاً.. وصمت عظمةً.. كان كالمشعل الذي يبدد ظلام الليل ينير بصمت وينطفئ بصمت.. كان مبدعاً.. كان صادقاً.. كان أميناً.. وعندما انتهى.. شعر بمتعة لا مثيل لها وأغلق أهدابه ليحاكي جمال ما صنعت يداه بجمال يجول في مخيلته.. ربما يكون واقعه أجمل.. وربما يكون خياله الأجمل.. لكنها كانت تمثالاً ناطقا لروعة الإتقان.. أنجز النحات في وقته وغادرت الغيمة.. لاحت في الأفق ألوان قوس قزح لتعلن حاله فرح الإنجاز .. وبياض الكون غمر الوجود.. كانت لحظة ميلاد ربيع.. ولحظة سلام توجت بيديه.. بل كانت معزوفة ملائكية.. وبعد أن توقفت يداه كانت لحظة مولد صخرة صماء أصبحت ناطقة.. بعد كل هذا عادت العقول بعدما كبلت بجمال منسوج.. وغادرت حمامة السلام والطائر كما لم ترفرف الفراشة بجناحيها.. وغاب القمر عن صفحة السماء بعد أن شهد الجميع لحظة جمال أخاذ.. غادروا.. لكنهم سيعودون حتماً.. سيشتاق الزمان.. سيشتاق المكان.. سيشتاق الصمت.. وسيشتاق لك طائر السلام.. جمعيها تعرف أنك لن تذكرها.. وسيعودون اليك ليشهدوا ميلاد صخرة ناطقة تنبع منها عذوبة الحياة.