أقبل المساء حزينا بطيء الخطى ، تثقل أنفاسه الضعيفة خيالات كئيبة ، تثيرها مناظر غيوم أواخر الخريف التي تتشكل على هيئة حيوانات ومخلوقات أسطورية ، تسبح في الفضاء اللانهائي..كانت الشمس تجنح للغروب موارية بقايا صور متلاشية على نتوءات الفراغ ..تمشي ككرة حمراء قانية بخطى متعبة لاهثة، في محاولة لتقبيل ثغر الأفق الذي يرسمه التقاء السماء المكفهرة ،بصفحة البحر الهادئة . في تلك اللحظات المشروخة و المشحونة بشتى الخواطر، كان يجلس على صخرة منعزلة ، قابعة في خيلاء وسط السهل الممتد إلى المدى، المشكل مع البحر الشا سع صحراء مركبة وغريبة ..كان يحس أنه بعيدعن كل ذي نفس تفكر، لاتربطه رابطة بما يجري حوله..لاشيء يقطع عليه صمته الأسطوري سوى أصوات الطيور وهي تعود إلى أعشاشها حيث الدفء والأمان.. -" أما أنا؟..يا ليتني كنت طائرا بريا ، أوفراشة ملونة تجوب الحقول الخضراء..أوحتى ..أوماذا ؟..يا لتفاهة موقفي... " أحس بألم حاد في دماغه .. ربما من فرط السهر الذي تظهر آثاره واضحة تحت عينيه الحمراوين المنتفختين.. لم يعد يستطيع تركيز أفكاره الجامحة مثل خيول وحشية في غابة يلفها الضباب.. فقد القدرة على التحكم في الزمان والمكان ..رمى ببصره بعيدا ، إلى حيث عربة الشمس الحمراء تخترق الطريق الموحش نحو مثواها الأخير.. الشمس طائرفينق لاتفتأ تتجدد ..إنها هرة تأكل المزيد من بنيها ، وتنتظر الجنين .. ما أشد كآبة هذا الغروب ..فيه جمال ساحر ، ولكنه غامض وممزوج بحزن شفيف، يبعث رعشة مبهمة في ثنايا النفوس المعذبة ..إنه يذكرنا بالنهاية الحتمية . اتسعت مقلتاه فجأة بشكل هستيري ..تلاحقت أنفاسه الواهنة، وازدادت ضربات السياط على قلبه فأسرع في الخفقان وعلا وجيبه ..أخذت قسمات وجهه المتعب تتقلص، متخذة أبعادا مختلفة ،و ترتسم عليها خطوط غامضة ، لكنها أكثر قدرة على الإفصاح عما في قرارة نفسه المتلظية ..لقد شرع في استعراض الشريط من جديد ،كدأبه كل يوم يأوي فيه إلى صخرته .. شريط حياته الذي يحكي قصته مع القدر ..تلك القصة التي شكلت كيانه ونفسيته وانتهت به إلى هذه الجلسة المنفردة التي صارت نغمة يتكرر إيقاعها على أوتار الزمن. رجعت به الذاكرة إلى الوراء ..إلى أول يوم جمعه القدر مع شهلاء ..كان ذلك منذ سنين .. طالبة فلسطينيةشقراء ، تنام في عيونها حدائق الليمون، إلى جانب كل ماورثته من قداسة الأرض من عزة وإباء .. تقيم مع أمها التي تعمل أستاذة للفيزياء بإحدى الثانويات بالرباط . كانت الأب والأم لشهلاء، بعد استشهادالوالد في غارة للعدو على إحدى المدارس..كان يلقي درسا في التاريخ عندما باغته صاروخ نسف المدرسة بمن فيها من المدرسين والتلاميذ ..إنهم يتعمدون قتل البراءة حتى لاتكبر ، وتتحول إلى شموس حارقة.. اضطرت الأم الى الهجرة الى المغرب للعمل من أجل شهلاء ، وخاصة أن الأوضاع قد ساءت في الأراضي الفلسطينية في ظل الإحتلال .لم تكن الهجرة هربا أو تخلياعن الوطن ، ولكن كانت من أجله في الحقيقة .. نمت روابط الحب بينهما ، حتى ملأت عليه كل كيانه ، ووجد فيها ضالته المثلى ..تقدم إلى خطبتها فكانت الموافقة من طرف الجميع ..وعمت الفرحة العائلتين .. تعاعهدا على الإخلاص والوفاء ..وآلى على نفسه ألا يغني إلا بين أزهار رياضها . وكذا كانت تبا دله وردا بورد..كانت مثالا يحتدى في العفة .. اتفقاعلى إرجاء الزواج إلى ما بعد التخرج من الجامعة ، فكلاهما كان في السنة النهائية من الإجازة ،وفي نيتهما التحضير للدراسات العليا ،ثم الدكتوراه ..غدا الزمن يمر بطيئا ، تثقل خطواته كثرةالإمتحانات الكتابية والشفوية ،وصار الشوق يؤثث الحركات والسكنات كان قبل أن يلتقي بها فاقدا للثقة حتى في نفسه ..فاستطاعت شهلاء وهي التي يلوكها البعد عن الأهل والوطن ، وتضطرم في دواخلها ذكرياتها مع الأب الشهيد،أن تجعله يبتسم للحياة، جعلته ينظر إلى كل مظاهر الكون بمنظار أبيض ..فازداد إعجابه بها ، وتعلق بها تعلق الوردة بلونها.. صار يصلي لحبها في محراب الإيمان الخالص بالقضية..آمن بقدسية الحب ..إنه أنقى رابطة إنسانية تجمع بين قلبين وتجعلهما يتحدان ويذوبان في بوثقة واحدة ..الحب ينفي كل الفوارق كيفما كانت .يحيل أتراح الحياة إلى أفراح سرمدية .. لقدتحول إلى إنسان آخر ،فبعدما عاش أمدا منغلقا على نفسه ، صار يضحك من أعماقه ، يحدوه حبوروطرب ، وترقص على أهداب قلبه أطياف السعادة. وتمضي قوافل الأيام ،وتتعاقب مواكب الليالي والشهور ..الزمن يزيد من أصالة حبهما ، كأنه خمرة يعتقها الدهر في دنانه..كانت سعادته يواكبها الأمل الواعد في اليوم الموعود..آه..لو استطاع اختراق أستار الغيب ، لاكتشف ناموس حياته وقدره المسطر في ذاكرة الزمان.ولكن ... كان يحس بشعور غامض في بعض الأحيان ،مرده أنه يدرك أن الدهر منقلبة أنواؤه ..الأقدار تتربص بالمرء ، ولاتتركه يهنأ في جنة وردية ، تتخللها الأحلام الزرقاء ،والحوريات المجنحة .. فعندما تطلق صواعقها المجنونة تتلوى أعناق الأزهار ،ويتطاير الرحيق ليسافر مع قوافل الرياح إلى قرارة العدم . قررت شهلاء السفر فجأة مع والدتها إلى فلسطين ،لزيارة الأهل الذين لم يغادروا ديارهم ، رغم اشتداد القصف والحصار على كل حي ..كانت المدن المحتلة تعيش على إيقاع الموت ، الجرافات تهدم البيوت ، والطائرات الحربية تحول السماء والأرض إلى جحيم مستعر .. كانت الظروف كلها تنذر بالخطر المحدق .. رغم ذلك قررت شهلاء السفر..كان الحنين الى مرتع الطفولة الأولى يضعها في حيرة من أمرها ..كيف يمكن أن تفارق خطيبها محمد ولو لأيام معدودة ، وتعود قبل انتهاء العطلة الصيفية ..كان حب وطنها وحب المغرب الذي يقطنه حبيبها ينهشان شغاف قلبها . ولكن الأصول تحتم عليها السفر ولو إلى حين . تراكضت الأيام ، وأدمت بسنابكها سويداء القلبين ، قلب يبكي في مشرق القلب ، وآخر ينزف في مغربه ..كانت التجربة أقسىمن أن يتحملها أعتى جبل صخري.. طالت غيبة شهلاء ولاخبر يطفئ بعض اللهب الذي تزيد وقده الذكركلما ضمه الليل بجناحيه ..لقد غادر الكرى أجفانه ، ولم يعد للحياة طعم .. ماراوحت صور ة الحبيبة رحاب النفس ..تحولت الى ذرات تجري مع الدماء في العروق . في إحدى الأمسيات الربيعية الهادئة ، قرر أن يزور أحد أصدقائه ، وفي طريقه كانت الطبيعة تعرض أمامه جمالها الفتان ..ازهار الليمون المتفتحة تملأ الأجواء بأشذائها العبقة ، وورود الحدائق في أبهى حللها..الحياة بهيجة ،تعكس صفاءها على وجوه المارة فتشرق السعادة في ثنايا النفوس ،ولو إلى حين..كان يمشي وسط هذا الجمال ، ويحس أن الطبيعة تشاركه شوقه لحبيبة عمره ، ولذلك تحاول أن ترفه عنه بعض الشيء، ولكن .. سوف يكتشف بعد لحظات، أنها سخرية لاذعة من القدر ، الذي لايتركه يهنأ إلا ليكيل له التجريح ، وليجرعه علقما بكؤوس مترعة . دق محمد جرس الباب ، وفتح الصديق ، و كان محياه يقول أشياء كثيرة ..أدرك على الفور أنه يحمل له مفاجأة غير سارة ..إنه يعرفه جيدا .. مدعمر يده إلى درج مكتبه وأخرج منه ظرفا مفتوحا .. بداخله رسالةقصيرة وسلمها لضيفه بعد تردد أذبل خضرة الكيان ..تناولها في صمت وقرأ المحتوى في نظرة واحدة ..كانت موجهة من أم شهلاء إلى عمر: - لا أدري كيف أبدأ يا عمر ، ولكن ..شهلاء ..البقية في حياتك .. لقد استشهدت بعد غارة إسرائيلية على الحي الذي تسكنه خالتها .. استشهد كل من في الجزء الجنوبي من الحي ..أنا نجوت لأنني لم أكن هناك ..رحم الله الجميع .. إنهم شهداء عند ربهم يرزقون .. شهلاء لم تمت في الغارة ، بل حملت السلاح والتحقت برفاق الكفاح ، بعد هذه الغارة الآثمة .. لقد أسلمت الروح في ساحة الشرف الرفيع الذي روته بدمائها الزكية ، وإنه لكفاح حتى النصر .. حاول أن تبلغ الخبر إلى محمد حتى لا يمل الإنتظار..إزرع بذور الصبروالجلد في نفسه والأمل أيضا ، ما دامت شهلاء تنعم الآن في الجنة مع الصديقين .. كانت عباراتها جامدة وقوية .. إنها أم الشهيدة البطلة ، التي لاقت ربها وقلبها عامر بالحب الشامل المتكامل. مادت به الأرض وماجت ..وأطبق الظلام على الكون.. لم يستفق الا في غرفة الإنعاش .. وتتوالى الأيام متراكضة ، جامحة كعادتها .. واستمر شريط الذكريات يجلد الوجدان بعنف، ويعذب الضميربإيلام ..يخدر الإحساس بجدوى الحياة ..لقد صارللأشياء طعم التراب . تململ على صخرته الصماء ..أرسل نظرة فاحصة إلى ما وراء الأفق النائي ..كان الغروب حزينا كئيبا ،تغلفه حمرة قانية كروح الخطوب ..أخرج جواز سفره من جيب سترته ..تامله جيدا ..لقد حصل عليه منذ ثلاثة أيام فقط ، ثم أدار وجهه شطر المشرق ، وحدق مليا في الفراغ الشاسع ..كانت الشمس قد توارت تماما وراء مياه البحر المترامية الأطراف مثل صحراء قاحلة. وتمط أعناقها قوافل الغيوم الدكناء ، لتتلبدعلى سماء السهل الممتد إلى المدى ، الذي لازال يعانق جبروت البحر ..يهب نسيم مسائي بارد يثير كل المشاعر السوداوية في النفوس الحساسة ..أحس بمفعوله الصقيعي يتغلغل في أعضائه .. وقف بصعوبة ..جر جسمه المنهك وذهنه مثقل بشتى الخواطر ، اتقدت عيناه ببريق غريب ، لايرى إلا على وجوه الأبطال ، وابتعد في صمت ، ثم امتصته إحدى المنعطفات، بينما يزحف قتام الليل على الحقول الجرداء،يغرس فيها أشباح الوحشة والرهبة . **مراكش