البكاء هو آخر خطوط الردع النفسي... فعندما تتعطل اللغة، يصبح الدمع هو الأكثر فصاحة ونطقاً، وارتياحاً للنفس، وهو ما عناه الشاعر العاشق ذو الرمة صاحب مي حين قال: لعلّ انحدَار الدمع يعقب راحةً .. على القلبِ أو يشفي شجيَّ البَلابِلِ فالدمع يعقب راحة على النفس المأزومة، ويشفي القلب الملتاع، الذي هاجت – بلابله – أي شجونه، لأي سبب من أسباب هموم الدنيا ومتاعبها... والدمع غالباً ما يكون غالياً، وعزيزاً، فلا يهطل إلا من كرب، أو ضائقة أو تعب نفسي يفجّر غدده فتنساب.. ولكن البكاء بسبب توافه الأمور وصغائرها، هو دليل على نقص العقل، ونقص الحكمة، والشجاعة... أقول هذا وأنا أشاهد بعض الأحيان شبابا وفتيانا تسيل دموعهم من خلال شاشات التلفاز أثناء بعض المباريات، وذلك عندما ينهزم الفريق الذي يشجعونه... ورغماً عن كل أسباب التماس العذر، فإنني لا أستطيع تفسير ذلك. إلا بأن هؤلاء، غير أسوياء.. فكيف يبكي إنسان عاقل، وتهطل دموعه وتحمرّ عيناه من شدة النحيب من أجل جلد مكوّر، لامس الشبكة، أو أخطأها..؟ إن الهزيمة ليست هزيمة الفريق، وإنما هي هزيمة النفس الواهية، الضعيفة، الخوّارة. قد لا يعجب هذا القول بعضهم، ولكن ذلك لا يهم.. فأقول إن هؤلاء الشباب لن يصلحوا الشيء، ولن ينجحوا في شيء لأنهم لن يواجهوا مصاعب الحياة، وصراعها، والعراك معها، وإنهم سينهزمون، وينكسرون في أول جولة... إنهم مجرد حطام بشري، لن ينفع ولن يشفع إن هم استمروا على هذا الهوان، والهون، وذرف الدمع السخي، لهذه الأسباب السقيمة التافهة... أذكر أصحاب هذه الدموع الرخيصة، وأعقد مقارنة معهم، لحالة بكاء أخرى، ليست لشاب هش خنوع، وإنما لفتاة فولاذية الصبر، والكفاح، والتحمل.. كانت طالبة دراسات عليا في بريطانيا، وفي تخصص نادر ودقيق وهو علاج مرض الكبد الوبائي hepatitis B. كانت تمضي الساعات الطويلة في معمل الجامعة، تأخذ عينات من المرضى، وتجري تجارب على دواء معين لمكافحة هذا الفيروس والحد من انتشاره.. ولكنها رغم هذه الجهود المضنية، أخفقت في المرة الأولى، بعد سنة من العناء والبحث، ثم أخفقت في التجربة الثانية، ثم في الثالثة وذات يوم دخلت علي في المكتب شبه منهارة وانفجرت بالبكاء، وطلبت العودة إلى الوطن، فقد أصابها اليأس والقنوط... فتركتها حتى أفرغت مخزون دمعها ثم هدأت قليلاً.. فقلت لها من قال إنك أخفقت..؟ إن عدم نجاح تجربتك هو نجاح بالنسبة للآخرين فلا يخوضون فيها لأنهم لن يصلوا إلى شيء، وهو تنبيه لهم واختصار لجهودهم، وهذا في حد ذاته نجاح معرفي... ثم قلت لها إنني لن أقطع بعثتك، وإنما سوف أعطيك تذاكر لزيارة الوطن والأهل ثم تعودين لمعملك نشيطة قوية.. وفعلاً ذهبت ثم عادت لتواصل كفاحها وتواجه مرارة الإخفاق بمواصلة التحدي، والعناد، والإصرار على النجاح، وذات يوم دخلت علي وهي تبكي، فلم أجزع لبكائها لأنني أحسست أنه بكاء الفرح.. فقد نجحت تجربتها نجاحاً مبهراً بتوفيق الله وبسبب صبرها وكفاحها.. وهي اليوم أستاذة في جامعة طيبة، وتشارك في مؤتمرات دولية في مجال بحثها حيث تعتبر من الرواد فيه.. إنها الدكتورة "إلهام قطان".. تلك المرأة الصبور التي بكت عند الإخفاق، وبكت بعد أن سجلت هدف النجاح، وليست ذاك الشاب الواهن الهش الضعيف الذي يذرف الدموع لأن هدفاً جلدياً سجل في شباك فريقه.. فانظروا - رعاكم الله - إلى الفرق بين البكائين وانظروا إلى الفرق بين الهدفين..!!