للبريد أهمية كبيرة في حياة المجتمعات امتدت من العصور القديمة حتى وصلت لعصرنا الحاضر وكانت الحيوانات أكبر وسيلة للتواصل قديماً، بين المرسِل والمرسَل إليه كالحمام الزاجل، عندما تكون الرسالة مخطوطاً. أو تخاطبا كالهدهد الذي كان وسيلة التواصل بين سيدنا سليمان وملكة سبأ، وقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رسالة إلى ملك الحبشة، حملها له الصحابي الجليل جعفر بن عبدالمطلب، فأول من أُدخل نظام البريد في الاسلام هو معاوية بن أبي سفيان، وطوره مروان بن عبدالملك. نُظم البريد قديماً عبر محطات متفاوتة المسافات بينها، تفصل بين كل محطة بريد وأخرى، ما يعادل 150 كيلو على ظهور الخيل، وذلك حتى لا تهلك الحيوانات بكثرة الإرسال، فكل محطة تستلم الرسائل من ساعي بريد يعود بعد تسليمها لمحطته الرئيسية، فيما ينطلق ساعي البريد الآخر للمحطة التي تليها، حتى تنتهي لصاحب الرسالة، وتضم كل محطة مجموعة من الخيول، لها رئيس يراقب السُعاة والخيول. حفظ الموروث الشعبي ما للبريد من أهمية في حياة المجتمع في الجزيرة العربية عبر شريحتيه بادية وحاضرة، وكانت وسيلة نقل الرسائل البريدية تقليدية، وهي الإبل والخيول، التي لعبت دوراً كبيراً في خدمة التوصيل البريدي عبر الموروث الشعبي. يسمى صاحب البريد الساعي، وهو الناقل الرسمي للرسائل البريدية المكتوبة، أو الشفهية، أو ما يحمله من أغراض من المرسل وتوصيلها للأقارب، كانت الأسر تستبشر بقدومه خصوصاً لمن كان له قريب تفرق بينهم المسافات، فكان للبريد دور في التخفيف من التفكير في أحوال الغائبين ومعرفة أخبارهم, كما كان وسيلة التواصل بين الدوائر الحكومية المتوفرة في ذلك الوقت، وبين العاصمة. ونتحدث في هذا الموضوع عن قصيدة لها أكثر من مائة وخمسين عاماً، لساعي بريد كان يخرج من محطة البريد في أملج، على ظهور الأبل، وفيها يصف حالة الساعي النفسية مع الهجن لكثرة السفر في توصيل البريد، وهو يقضي العيد وحيداً في الخلاء، لا يرى غير الطيور التي تؤنس وحدته، ويتضح منها المحطة البريدية التي كان يصلها في أرض سيناء، حيث وصف جبال الطور في صحراء سيناء عندما بدت له في بداية دخوله، فسرح بخياله معها وكأنها بين الرمال سفينة في بحر، كما عرّفنا على أدواته التي لا يستغني عنها الساعي في ترحاله الدائم بين محطات البريد، ويعتبر البريد على ظهور الإبل مشقة لساعي البريد حيث يستغرق الكثير من الوقت في السفر والبعد عن الأهل، والتعرض للأخطار يقول الشاعر: والله ما انسى الهجن واركوبهنِّ لما انحني واغدي كما عود الاقواس عيدين فوق الهجن عايدتهنِّ العفو ما عيدت حينٍ من الناس غير القماري في الخلا غرْدَهنِّ ومن الخلا شيبي ملا هامت الراس حِرْش الأويرك فالخلا درهمنِّ ومرافقي بالخرْج بكرج ومحماس ساعة جبال الطور ليّه بدَنِّ مثل بابور في البحر غطاس عبر الشيخ أحمد ابن رفادة عن ردة فعله بعد رسالة بريدية أوصلها له ساعي البريد، والتي جاءته بأخبار خبر وفاة صديقه، فعبر عنها بكلمة (قراطيس) وراح ينثر مشاعر الحزن التي أقلقت مضجعه بعد قراءتها، فقال: البارحة يا علي نومي على كوع مرا على يمنا ومرا يسارا جتنا قراطيس بها النيل مردوع جرايد تجلب علينا الخبارا واصبحت من قري القراطيس مصروع كبدي عن المطعوم فيها مرارا مرحوم يا خو زاهية مبعد النوع أرجي عسى داره عليها بذارا ظلت صورة ساعي البريد حاضرة في الذاكرة الشعبية وهو على ظهر الهجن، يُقبل ويُدبر على الحي أو القرية، يحمل معه لهم الأخبار مكتوبة أو شفهية، فتخفف لوعة الاشتياق، ليعود بأخبارهم للأقارب التي أجبرتهم الظروف على البعد وكانت الرسائل الورقية هي الرسول الذي يطمأن من أجبرتهم الظروف على البعد، وما يحصل لهم في الغربة.