الجائحة اسم مشتق من كلمة اجتاح واجتياح.. وتأتي بمعنى اكتساح وطغيان وهلاك جماعي أو انتشار قسري (كأن نقول اجتاح السيل المدينة، أو اجتاح الجيش البلاد، أو تمكن الجراد من اجتياح المزارع). ورغم أنها ترتبط بالمصائب والأحداث العسكرية، لا أرى ما يمنع استخدامها للحديث عن جائحة مرضية (كفيروس الكورونا) أو جائحة مناخية (كالاحتباس الحراري) أو جائحة اقتصادية (كانهيار الأسهم) أو حتى جائحة اجتماعية (كالهوس بالجوال). وما يهمنا في هذا المقال هي الجوائح النفسية التي تأتي بشكل هستيريا تجتاح المجتمع. أنا شخصيا مازلت أذكر شائعة انتشرت في المدينةالمنورة تدعي قيام الساعة "يوم الجمعة القادم".. بدأت ككذبة سخيفة بين أطفال الحي ولكن انتشارها السريع (وسماعها من عدة مصادر) جعلت حتى العقلاء يصدقونها أو على الأقل يعجزون عن تكذيبها.. وبحسب وقت سماع الشائعة لم يتبق لمعظم الناس غير يومين أو ثلاثة كي يتوبوا من ذنوبهم، ويُضبطوا أمورهم، ويستعدوا ليوم الحساب.. أما على مستوى أكبر؛ فجميعنا يتذكر جائحة الهوس بالأسهم، وفيروس عام 2000، ومكائن الخياطة التي تضم الزئبق الأحمر (رغم أنه لا يوجد معدن أو عنصر كيميائي بهذا الاسم).. وظاهرة كهذه يمكن أن تحدث أيضا مع الورود والرقص وتحضير الأرواح وتحول البشر لقرود.. ففي القرن السابع عشر جلب أحد الهولنديين زهرة من إسطنبول تدعى التوليب.. وبسبب ندرتها وعشوائية ألوانها احتكرها تجار الورود وباعوها بسعر كبير. وبارتفاع الأسعار بدأ عامة الناس يزرعونها فحققوا ثروات كبيرة.. أما الفقراء فأغرتهم المكاسب السريعة فأصبحوا يقايضون بيوتهم وممتلكاتهم مقابل زهرة لا تعيش لأكثر من أيام .. ولا تساوي حاليا ريالا واحدا... أيضا هناك جائحة الرقص الديني الذي اجتاح أوربا في القرون الوسطى.. حالات رقص جماعي تصيب آلاف الأشخاص في المناسبات الدينية (يمكن تشبيهه بحالات الزار لدينا). اندلعت أولا في ألمانيا عام 1374 قبل أن تنتشر بسرعة في كامل اوروبا.. وكانت الجائحة الأعظم في ستراسبورغ فرنسا حين استمرت الظاهرة لعدة أيام (من عيد الميلاد 1518) شارك فيها كافة سكان المدينة.. ... والحقيقة هي أن مساحة المقال لا تتسع لذكر كافة الجوائح النفسية التي أصابت العالم في فترات متقطعة (مثل حالات الاغماء الجماعي في مصر وكولومبيا، وجائحة الرجل القرد في دلهي، وجلسات تحضير الأرواح في دول كثيرة، ولعبة تحدي تشارلي التي ظهرت في أسبانيا وانتشرت في العالم بواسطة الإنترنت)... وكل هذه الحالات تثبت أن الجوائح النفسية ظاهرة اجتماعية تأتي بوجوه مختلفة وتتكرر في كل المجتمعات.. تثبت إمكانية استسلام عقولنا الفردية لعقل جماعي كبير تتعطل خلاله قدرتنا على النقد والتمييز.. هل ستسألني، لماذا كتبت هذا المقال؟؟؟ ... لأن مجرد معرفتك بوجودها يمنحك مناعة ضدها...