دخلت قضية السلام في الشرق الأوسط في الأعوام الأخيرة ما يشبه حالة الغيبوبة، غير أن هذا الجمود الذي اعترى جهود الحل وإعادة الحقوق الفلسطينية توازي للأسف مع سعي إسرائيلي حثيث لتغيير المعطيات على الأرض بما يعقد جهود السلام، ويضيق على الطموحات الفلسطينية المشروعة، وما زاد الطين بلة حدوث الانقسام المؤسف في الصف الفلسطيني بين حركتي "فتح" و"حماس"، ومن بعد ذلك الفوضى التي ضربت المنطقة العربية جراء ما يسمى ب"الربيع العربي" وهو ما استغلته إسرائيل بكل قوة للتوغل في مشروعها الاستيطاني وتثبيت الأمر الواقع لتنزوي "القضية" في ركن بعيد، ويبقى حلم الدولة الفلسطينية التامة السيادة سرابا قصيا على الأقل في المستقبل المنظور ريثما تتوفر إرادة دولية وإقليمية للدفع بعربة السلام المعطلة. تبديد السلام في الوقت الذي لا تترك فيه إسرائيل الرسمية مناسبة داخلية أو دولية وإلا وتؤكد فيها حرصها على تحقيق السلام مع الفلسطينيين وصولاً للاستقرار المنشود داخلياً وإقليمياً، إلا أن ممارساتها على الأرض تُظهر العكس تماماً، ومن ذلك سعيها الحثيث لتوسيع مستعمراتها الاستيطانية في أنحاء فلسطينالمحتلة، وتنامي إرهاب المتطرفين اليهود ضد الفلسطينيين، ومساعي طمس الهوية العربية للأرض، والعمل على تهويد المقدسات الإسلامية، دون اكتراث بالإدانات الدولية والنداءات للتوقف عن هذا. على الصعيد السياسي مثلاً يؤكد ساسة تل أبيب دوماً حرصهم على حل الدولتين كأساس مقبول لتحقيق السلام مع الجانب الفلسطيني، والعجيب أنه في الوقت ذات تواصل عمليات قضم الأراضي الفلسطينية في الضفة لصالح مستعمراتها غير الشرعية المتناثرة فيها، وتوسيع القائم منها، ويقود هذا التحرك زعماء تيار اليمينيين وأحزاب المستوطنين في الحكومة الإسرائيلية، حيث يروج زعيم ما يسمى ب"البيت اليهودي" نفتالي بينت دوماً لضم معظم الضفة الغربية، وترك المدن والبلدات الكبرى فيها بيد الفلسطينيين، والتخلي تماماً عن فكرة الدولة الفلسطينية. وفي هذا الجانب أفاد تقرير فلسطيني، بأن سلطات الاحتلال الإسرائيلي صادقت خلال عام 2016 على بناء أكثر من 19 ألف وحدة استيطانية موزعة على معظم المستوطنات الجاثمة على أراضي مدينة القدس، وذلك ضمن مخطط القدس الكبرى الذي تسعى إلى تنفيذه على الأرض. وتطرق إلى الانتهاكات الإسرائيلية في القدس في المجالات كافة، وقال انه تم الكشف العام الماضي عن "مشروع وجه القدس"، أو "بوابة القدس" الذي سيقام على مساحة 211 دونماً في المدخل الغربي لمدينة القدس. وأضاف انه تم الكشف أخيراً عن مخططات لتحويل محيط المسجد الأقصى المبارك إلى مجمع من الكنس اليهودية، وطمس المعالم الإسلامية، كما أقرت المحكمة المركزية الإسرائيلية للشؤون الإدارية مشروع "بيت الجوهر" التهويدي على مساحة 1.84 دونم، ومساحة بنائية تصل إلى 2985 متراً مربعاً تشمل بناء طبقتين فوق الأرض، وأخرى تحت الأرض، وتابع التقرير أن أجهزة الاحتلال شرعت بوضع اللمسات الأخيرة للبدء بتنفيذ مشروع بناء كنيس "جوهرة إسرائيل" في حي الشرف في قلب البلدة القديمة في القدسالمحتلة بتكلفة نحو 48 مليون شيكل، إذ سيبنى على أنقاض وقف إسلامي وبناء تاريخي إسلامي من العهد العثماني والمملوكي. في هذا السياق، كشفت صحيفة "يديعوت أحرونوت" عن مدينة القبور اليهودية التي يتم بناؤها هذه الأيام في أعماق الأرض في القدس بسبب مشكلة النقص في الأراضي المخصصة، وذلك من خلال أنفاق ضخمة تحت جبل الرحمة في القدسالمحتلة، في الوقت الذي لم تسلم فيه قبور المسلمين التي هدمها موظفو سلطة الآثار الإسرائيلية في باب الرحمة الواقع في الجانب الشرقي من الأقصى. هذه المشاريع الإسرائيلية في الضفة والقدسالمحتلة إجتمعت فيها ثلاثة عوامل -إضافة إلى الكثير غيرها- كفيلة بإعاقة أي تحرك حتى لو برعاية دولية نحو السلام المنشود، ما دام التطرف هو سيد الموقف حالياً في إسرائيل. المبادرة العربية.. دعوة عقلانية نحو أربعة عشر عاماً مضت على المبادرة العربية للسلام، والتي أطلقها الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- في عام 2002، وأثبتت الايام مجدداً عمق الرؤية السياسية، التي تتمتع بها المملكة العربية السعودية، والتي كانت ومازالت تسعى في سياساتها على تحقيق أمرين هامين، اولهما السعي الى الحفاظ على الأمن القومي العربي، واستعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وثانيهما الرغبة الصادقة في الحفاظ على السلام، والعمل الجاد من أجل انهاء الصراع العربي الإسرائيلي بشكل يضمن الحقوق الفلسطينية، ويكون قابلاً للاستمرار والحياة. ولو عدنا الى تلك المبادرة، لوجدنا أنها وضعت امام اعينها هدفاً يتطابق والهدف الوطني الفلسطيني المعلن، وهو أقامة الدولة الفلسطينية على التراب الفلسطيني، فقد اكدت هذه المبادرة بوضوح ومن دون مواربة، ان هدفها هو إنشاء دولة فلسطينية معترف بها دوليًا على حدود 1967 وعودة اللاجئين وانسحاب إسرائيل من هضبة الجولان المحتلة، مقابل اعتراف وتطبيع العلاقات بين الدول العربية مع "إسرائيل". وقد تم الإعلان عن مبادرة السلام العربية في القمة العربية في بيروت، وبذلك نالت هذه المبادرة تأييدًا عربيًا، سرعان ما اصبح دولياً ايضاً. فعلى المستوى العربي تبنى مجلس جامعة الدول العربية المبادرة في دورته الرابعة عشرة، واكد ما أقره مؤتمر القمة العربي غير العادي في القاهرة في يونيو 1996 من أن السلام العادل والشامل خيار استراتيجي للدول العربية يتحقق في ظل الشرعية الدولية، ويستوجب التزاما مقابلا تؤكده إسرائيل في هذا الصدد. وبعد أن استمع إلى كلمة الملك عبدالله بن عبدالعزيز -يرحمه الله- عندما كان وليا للعهد، التي أعلن من خلالها مبادرته داعيا إلى انسحاب إسرائيل الكامل من جميع الأراضي العربية المحتلة منذ 1967، تنفيذا لقراري مجلس الأمن (242 و338) والذين عززتهما قرارات مؤتمر مدريد عام 1991 ومبدأ الأرض مقابل السلام، وإلى قبولها قيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة وعاصمتها القدسالشرقية، وذلك مقابل قيام الدول العربية بإنشاء علاقات طبيعية في إطار سلام شامل مع إسرائيل. وبناء على ذلك طالبت الجامعة العربية "اسرائيل" بإعادة النظر في سياساتها، وأن تجنح للسلم معلنة أن السلام العادل هو خيارها الاستراتيجي أيضا،وحددت الجامعة العربية مجموعة الشروط التي جاءت في المبادرة العربية وهي: أ- الانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة بما في ذلك الجولان السوري وحتى خط الرابع من يونيو 1967، والأراضي التي ما ما زالت محتلة في جنوبلبنان. ب- التوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يتفق عليه وفقا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194. ج- قبول قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على الأراضي الفلسطينيةالمحتلة منذ الرابع من يونيو في الضفة الغربية وقطاع غزة وتكون عاصمتها القدسالشرقية. عندئذ تقوم الدول العربية بما يلي: أ- اعتبار النزاع العربي الإسرائيلي منتهيا، والدخول في اتفاقية سلام بينها وبين إسرائيل مع تحقيق الأمن لجميع دول المنطقة. ب- إنشاء علاقات طبيعية مع إسرائيل في إطار هذا السلام الشامل. يدعو المجلس حكومة إسرائيل والإسرائيليين جميعا إلى قبول هذه المبادرة المبينة أعلاه حماية لفرص السلام وحقنا للدماء، بما يمكن الدول العربية وإسرائيل من العيش في سلام جنبا إلى جنب، ويوفر للأجيال القادمة مستقبلا آمنا يسوده الرخاء والاستقرار. ولو حاولنا فهم هذه الرسالة العربية للسلام، والتي هي رسالة سعودية في الأصل، لرأينا انها استطاعت بدقة واحكام الربط بين المصالح القومية العربية، وهدف السلام العادل والشامل، لا سيما وان الأيام أثبتت ان الصراع العربي الإسرائيلي، يعد المصدر الأخطر لكل الصراعات الثانوية التي يمكن ان تندلع في المنطقة، وبالتالي فإن العمل من أجل وضع نهاية منطقية وعادلة لهذا الصراع، يعد هدف كل ذي حكمة وبصيرة، وكل مخلص يفكر بمستقبل الاجيال اللاحقة، خاصة وان هذا الصراع الدموي الطويل، استنزف الكثير من الطاقات العربية، وساهم في تأخير النمو في الكثير من الدول العربية المنخرطة مباشرة به، او تلك البعيدة التي تتاثر بلا شك برياحه العاتية، ناهيك عن أنه الحق بالشعب العربي الفلسطيني خسائر بشرية ومادية كبير، وعليه يمكن القول اخيراً ان قراءة متأنية للمبادرة العربية للسلام، والتي رفضها الاسرائيليون، لانها تضع حداً لامالهم التوسعية، ما تزال الإطار العربي الأفضل والأنسب دولياً، لحل هذا الصراع الدموي الطويل، خدمة لشعوب المنطقة ،وللسلام في العالم اجمع. فرصة مهدرة في باريس في يوم السابع عشر من شهر يناير الجاري أي بعد يومين فقط من المؤتمر الدولي الذي عُقد في العاصمة الفرنسية حول أفق مسار العملية السلمية الفلسطينية الإسرائيلية المعطلة منذ سنوات، طالب نائب فرنسي ينتمي إلى الحزب الشيوعي ويسمى فرانسوا أسنسي الحكومة الفرنسية بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، وذكَّر النائب بأن البرلمان الفرنسي كان قد قدم إلى الحكومة طلبا مماثلا في عام 2014 وأن وزير الخارجية الفرنسي السابق لوران فابيوس أكد آنذاك أن الحكومة ستُضطر إلى القيام بذلك إذا لم تكلل المبادرة الفرنسية لإحياء عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين بالنجاح. وركز النواب الفرنسيون في سياق النقاش حول حصيلة مؤتمر باريس على ملاحظتين اثنتين تُظهران ضعف أداء الاتحاد الأوروبي السياسي تجاه ملف العملية السلمية الشرق أوسطية ولاسيما تجاه الملف الفلسطيني وهما: أولا: أن المبادرة الفرنسية انتهت في نهاية المطاف حيث بدأت باعتبار أن البيان الختامي الصادر عن مؤتمر باريس الأخير اكتفى بالتذكير بأمر مبدئي أجمعت عليه الأسرة الدولية منذ عقود هو أن السلام بين الطرفين الفلسطيني يستتب إذا انتهى الاحتلال والاستيطان الإسرائيليان ويثبُت انطلاقا من تكريس مبدأ دولتين تتعايشان. ثانيا: أن شركاء فرنسا في دول الاتحاد الأوروبي لم يكونوا متحمسين للمبادرة الفرنسية. بل إن بريطانيا العظمى التي لاتزال حتى الآن عضوا في هذا الاتحاد قبل البت في قرار الانفصال عنه بموجب استفتاء الصيف الماضي تحفظت على البيان الختامي ولم توقع عليه. وهو أمر لا يتفهمه كثير من البرلمانيين الفرنسيين نظرا لمسؤولية المملكة المتحدة في معاناة الشعب الفلسطيني. مجتمع مدني نَشِط في عام 1980، أصدرت دول المسار الوحدوي الأوروبي في مدينة البندقية بيانا شهيرا تم الاعتراف به لأول مرة بشكل واضح بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم. واستضافت مدريد عام 1991 مؤتمرا دوليا لمحاولة وضع سكة جديدة تقود مبدئيا إلى إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي. وفي إحدى القمم الأوروبية التي عقدت في برلين عام 1999، جددت دول الاتحاد الأوروبي تمسكها بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم من خلال إقامة دولة فلسطينية. وإذا كان مؤتمر مدريد قد نظم بمبادرة من الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب، برعاية من قبل الولاياتالمتحدة وما كان يسمى الاتحاد السوفياتي، فإن من يتفحص مليا كل المبادرات السياسية التي اتخذت من قِبل قادة الدول الأوروبية بشأن الملف الفلسطيني يهتدي بسهولة إلى أنها ظلت لا تتجاوز حدود إعلانات المبادئ التي ينقصها العمل السياسي للضغط على الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة. وبقيت دول الاتحاد الأوروبي حتى الآن تغطي على ضعف أدائها السياسي بشأن الملف الفلسطيني من خلال تقديم مساعدات مالية للفلسطينيين لاسيما عبر مسار برشلونة المتعلق بالتعاون بين دول الاتحاد الأوروبي من جهة ومنطقة المتوسط الجنوبية من جهة أخرى، وليس ثمة شك في أن هذه المساعدات خدمت إلى حد كبير الفلسطينيين، ولكن منظمات المجتمع المدني الأوروبية تطالب اليوم الحكومات الأوروبية باتخاذ موقف حازم وواضح إزاء إسرائيل حول المساعدات المالية الأوروبية المقدمة للسلطة الوطنية الفلسطينية والمخصصة مثلا للبنى التحتية الفلسطينية التي تتعرض بشكل منتظم للهدم والتدمير من قبل القوات الإسرائيلية أو المستوطنين. مجمل القول إنه بقدر ما ظلت مواقف السياسيين ضعيفة وضبابية بشأن هذا الملف بقدر ما بدأ المجتمع المدني الأوروبي يضغط بحق منذ سنوات على السياسيين للاعتراف بالدولة الفلسطينية لأن في ذلك مساهمة حقيقية في إقرار حقوق الفلسطينيين المشروعة. معالي أدوميم مستعمرة إسرائيلية تدنس مدخل القدس الشرقي (أ ف ب)