الطفل والبالغ يتعلمان اللغة الأجنبية بطريقتين مختلفتين.. الطفل (حين يتعلمها قبل سن البلوغ) تصبح جزءا من شخصيته، وطريقة نطقه، وتركيبته العصبية والنفسية.. يتحدثها بطلاقة وسلاسة دون تفكير (أين الفعل والضمير وأي تصريف يختار).. تخرج منه بطريقة عفوية توازي في تلقائيتها لغته الأصلية (لدرجة يحلم بها في الليل).. يتعلم الطفل اللغة الأجنبية كما تعلمت أنت لغتك العربية من خلال المحاكاة والتقليد (وليس القواعد والتعقيد) فيصبح حديثه مطابقا لحديث الناس حوله (وهذا سر تحدثنا نحن باللغة العربية، رغم فشلنا في قواعدها النحوية).. أما الشخص البالغ (الذي كان طفلا في الأصل) فيصعب عليه تعلم أي لغة تالية بسبب سطوة لغته السابقة.. حين ينطق اللغة الجديدة يفعل ذلك من خلال مخارج لغته القديمة واستعارة أنماطها التي تحجرت في دماغه.. يصعب عليه الحديث بطلاقه لأنه يفكر (أولا) بلغته الأم ثم يترجم ما يدور في رأسه للغة الجديدة.. لا يمكنه مجاراة الطفل الصغير لأنه لم يتعلم اللغة مثله (من خلال المحاكاة)، بل من خلال قواعد لغوية لا يتذكرها لحظة نطقه بها.. لم يتعلم معاني الكلمات من خلال الموقف والتجربة (كما يحدث للطفل) بل من خلال ترجمتها إلى لغته الأم، الأمر الذي يمنعه عن فهمها بدقة، ويظل يقارنها دائما بلغته الأم.. صحيح أن هناك استثناءات لبالغين تفوقوا في اللغات الأجنبية، ولكن (أغلب الناس) تتحجر ألسنتهم، وتثبت مخارج الحروف لديهم بحسب اللغة الأكثر قدما.. ما لم يتعلم الإنسان كلا اللغتين في سن الطفولة، يصعب عليه نطق اللغة الجديدة بمستوى أهلها الأصليين.. الأسس التي رسختها لغته الأم (في دماغه ولسانه وحركة فمه) تجعله لا يحتفظ فقط بلهجته القديمة، بل ويعجز عن تبني الأنماط اللغوية الجديدة.. حتى طريقة استماعه "تتحجر" ولا تعود تميز الفروقات اللفظية التي لم يتعلمها في طفولته.. لاحظ بنفسك كيف يعجز الأجانب في بلادنا عن التمييز بين حرفي الظاء والضاد، أو الطاء والتاء (وكيف نعجز نحن عن إدراك الفرق بين حرفي P و b).. لاحظ كيف يصعب عليهم (ولكن ليس على أطفالهم) نطق حرف العين والخاء والحاء؛ ناهيك عن صعوبة فهمهم لمعاني الاشتقاقات (مثل اكتتاب واستكتاب ومكاتبه، المشتقة من كتب).. في أميركا توجد شخصيات ناجحة ومشهورة فشلت (رغم كل الدروس والتدريبات) في تعلم النطق الصحيح أو التخلص من لهجتها الأصلية.. خذ كمثال هنري كيسنجر الذي أصبح وزيرا لخارجية أميركا دون أن ينجح في تخطي لهجته الألمانية، وأرنولد شوارزنيغر الذي تحول إلى نجم السينمائي وحاكم لولاية كاليفورنيا ومع هذا لم يفلح في تخطي لهجته النمساوية.. كل هذا يؤكد أنه ليس عيبا -على الاطلاق- الاعتراف بعجزنا عن تعلم اللغات الأجنبية في سن متأخرة.. ليس عيبا أن نخطئ فيها أو ننطقها بطريقة مشوهة، كونها ببساطة ليست لغتنا الأم التي نفكر من خلالها أو نحلم بها أثناء نومنا.. على العكس تماما؛ من يحاول الحديث بلغة أجنبية غريبة يستحق الاحترام (أكثر من أهل اللغة الأصلية نفسها)، كونه يحاول على الأقل تعلم مهارة جديدة تزداد صعوبة بمرور العمر..