هناك بلدان ترتاح للسياحة فيها، وأخرى تتمنى لو لم تزرها أصلًا.. دول تشعر فيها بحريتك وإنسانيتك، ودول تشعر فيها بأنك غريب ومراقب وغير مرحب بوجوده.. روسيا مثلا بلد جميل ورائع ويملك مقومات سياحية كثيرة، ولكنني لم أشعر براحة نفسية كبيرة حين تجولت فيها قبل ثلاثة أعوام.. حاولت إقناع نفسي بأن ذلك بسبب أفلام جيمس بوند وروايات الحرب الباردة؛ ولكنني لم أستطع إنكار تذمري من مسألة التدقيق في جواز سفري لفترات طويلة (أو أخذه لنصف ساعة في الغرفة المجاورة).. لم أستطع تجاوز رهبة التواجد في الساحة الحمراء، أو رؤية جنود الجيش الأحمر، أو مقبرة الصواريخ النووية.. لم أستطع نسيان ملاحقات الكي.جي.بي للزوار الأجانب، أو حوادث الاختفاء التي حدثت للمسؤولين الروس في مبنى الرعب (الشقق التي يسكنها أعضاء الحكومة واختفى 40% من سكانها بتهمة الخيانة أو العمالة للغرب).. بدون شك؛ روسيا تغيرت بشكل كبير منذ تفكك الاتحاد السوفيتي، وحل الحزب الشيوعي عام 1991.. أصبحت أكثر انفتاحا ورفاهية، وأصبح مواطنوها أكثر حرية واستقلالية، وابتعدت كثيرا عما يحدث هذه الأيام في كوريا الشمالية (التي ماتزال تعيش عصر الارتياب الماركسي في الستينيات).. فحتى عهد غورباتشوف (آخر زعيم للاتحاد السوفيتي) كانت روسيا تعيش أجواء ترصّد، وتجسس، ووشاية، ميزت جميع الدول الماركسية زمن الحرب الباردة.. كانت أي وشاية، أو زلة لسان، كفيلة بخطف صاحبها ليلا (كما كان يحدث في بيت الرعب) ووضع أطفاله تحت رعاية الدولة كي تعاد تربيتهم وإقناعهم بخيانة آبائهم لهم.. كان الارتياب بالمواطن يتسبب إما بإعدامه أو نفيه أو دخوله مستشفى المجانين (لدرجة أصبح عدد المتهمين بانفصام الشخصية schizophrenia أكثر من المجرمين في السجون الروسية)!! كانت نسبة الانضباط بين الموظفين مرتفعة جدا، كون الخروج مبكرا يقابله أربعة أشهر خدمة في الجيش، والتغيب عن العمل يقابله النفي لسيبيريا، في حين يجب على العاطلين التصريح عن أنفسهم لدى مراكز المخابرات الرسمية.. كانت هناك قوانين غريبة (لا تختلف كثيرا عما كان يحدث في ألمانياالشرقية، وما يحدث هذه الأيام في كوريا الشمالية) مثل منع بيع الخرائط، ومنع وجود قائد للفرق الموسيقية، وتحويل الكنائس لمتاحف إلحاد تعلم الناس مخاطر الدين، ومنع الاحتفال بالأعياد الدينية والاستعاضة عنها بالأعياد القومية، وعدم استعمال التقاويم الغربية والاستعاضة عنها بتقويم ابتكره لينين (يتضمن خمسة أيام في الأسبوع)!! كنت أتمنى لو طالت المساحة أكثر كي أخبركم بأوجة الشبه مع ما كان يحدث في ألمانياالشرقية (ولكن يمكنكم البحث عن مقال: في بيتنا جاسوس) وما يحدث هذه الأيام في كوريا الشمالية (ولكن يمكنكم البحث من مقال: أي الكوريتين تشبه العرب؟).. ومن خلال المقارنة بين الدول الثلاث نكتشف أوجه الشبه بين (الأنظمة الأيديولوجية عموما) حيث يمكن لجنون الارتياب، والشك، والترصد، أن ينتهك كرامة الإنسان ويحول حياة الناس إلى جحيم وسجن كبير..