من بين الأجناس الأدبية التي يحفل بها الأدب الروسي تظل الرواية هي أكثر الأجناس التي حققت قبولاً واهتماماً من جميع أطياف القراء، وعلى مدى أزمنة وأجيال متباعدة ظلت أسماء الروائيين وكتاب القصّة الروس تعتلي تصنيف عظماء الأدب. أسماء لا يجهلها القارئ في أي مكان كان، كتولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف وغوغل وغيرهم. إيمان الباتع: انعطف الأدب الروسي إلى مسار آخر مختلف تماماً عن الأدب الإنجليزي إن المتغيرات الزمنية وتوفّر النتاجات الأدبية المتنوعة بشكل أوسع وتحوّل العالم إلى ما يسمّى بالقرية الكونيّة ألقى بظلاله على ذائقة القارئ في مختلف أنحاء العالم إلا أنّ وهج الرواية الروسية ظل حاضراً ومشتعلاً خصوصاً عند القارئ العربي، وهو ما يولد تساؤلات شتى: إذ رغم احتواء الرواية الروسية على الكثير من المحرمات الدينية والاجتماعية، التي تصطدم بالمسلمات في المجتمع المسلم، إلا ان القارئ العربي يتغاضى عن كل ذلك ويغرم بتلك الروايات فأيّ سرّ يكمن وراء ذلك التغاضي؟ ثم إن الروايات الروسية غالباً ما تكون ذات حجم كبير من حيث عدد الصفحات حتى أن عدداً منها ينقسم إلى أكثر من جزء كبعض روايات دوستويفسكي وتولستوي غير أن ذلك لم يؤثّر على رواجها وحضورها ولم يتعارض مع رتم الزمن السريع. هل تكمن وراء ذلك عظمة الرواية الروسية أم تراها عظمة الروائيين في زمن معين، إذا أخذنا في عين الاعتبار أن ما يتم تداوله من أدب الرواية الروسية إنما ينتمي إلى مرحلة إبداعية معينة تنتمي إلى عصر وزمن آخر بينما تغيب الرواية الروسية الحديثة مثلاً؟ هل موضوعات الرواية تناسب أو تشبه، بطريقة أو بأخرى، موضوعات عصرنا أم أن الفن في تلك الروايات هو ما جعل القارئ يقرأها دون أن يولي اهتماماً كبيراً بسياقها الزمني وموضوعاتها المطروقة؟ ترى، ما سر اهتمام وحفاوة القارئ العربي بالرواية الروسية؟ طرحت مثل هذه التساؤلات على نخبة من قرّاء هذا الأدب والمحتفين به، وقد جاءت رؤاهم كالتالي: مروان البلوشي أذكر بالضبط بداية دخولي عالم الأدب الروسي، كنت في سن ال 16، وبعد خروجي من المدرسة في آخر أيام الامتحانات، توجهت إلى مكتبة غير موجودة الآن في أحد أحياء دبي القديمة، كنت أبحث عن كاتب جديد أكتشفه بالكامل، بعد أن انتهيت من اكتشاف إرنيست همنغواي (كما ظننت وقتها). أثناء بحثي الحثيث بين رفوف المكتبة، وقعت عيناي على غلاف غريب، يضم رجلاً عجوزاً ولكنه بوهيمي المظهر، وكذلك يضم فتى وسيما يلبس لباس الرهبان (لباس رهبنة مسيحية ولكنه ذو مسحة شرقية، مع صورة دير عتيق. وكانت العنوان مكتوب بخط عربي عريض ولكنه متأثر بأبجدية غريبة. الإخوة كرامازوف، تلك كانت بدايتي مع الأدب الروسي. لا أزعم أني استوعبت الرواية بالكامل، ولكن كالكثير من القراء العرب، عايشت مجموعة من الأفكار الروحية العميقة، والحوارات الصادمة والمفاجئة والغارقة في الدراما (الأخ الأصغر أليوشا يسأل أخاه إيفان: هل تؤمن بوجود الله؟)، والأحداث التي تشتبك فيها حياة الأبطال الخاصة مع الحياة الروسية العامة. والتساؤل الذي لا يتوقف حول هوية روسيا، هل هي شرقية؟ أو أوروبية؟ أم خليط غير واضح وغير منسجم بينهما. أظن أن هذه هي بعض مفاتيح انجذاب القراء العرب للأدب الروسي: عندما يفتح القارئ العربي صفحات أي رواية روسية فإن ما سيجده هو عالم قريب منه، وعالم بعيد عنه أيضا. القرب يكمن أساساً في ما يتلمسه القارئ العربي من معاناة هوية، ومعاناة روحية يشعر بها هو أيضاً، نتيجة لدخوله الحداثة فجأة، كنظيره الروسي تماماً. وإذا تجولت في عالم الأدب الروسي، فإنك ستجد في كل مملكة وأرض روائياً أو شاعرةً يسكن فيها، ذكرت سابقاً دستويفسكي الذي يمثل أشواقنا الروحية الحميمة إلى عالم أطهر وأكثر مثالية، أما العملاق الآخر وأعني تولستوي فهو مختلف عن دوستويفسكي، تولستوي اهدأ، نثره أصفى وأنقى، يبتعد عن المبالغات والدراما، ويحب أن يبني عوالمه وسط الطبيعة والغابات والمروج والشلالات والقصور. تولستوي أيضاً تحركه الأسئلة والهواجس الكبرى، ولكنك كقارئ لا تصطدم بها مباشرة، بل تشعر بها بقوة من غير أن يصرح بها الكتاب مباشرة. كتابات تولستوي تشبه الحياة، فيها الهدوء والصفاء، ولكنها تضم أيضاً الغضب والتوتر والقلق، وهذا كله مبني بعناية بأدوات تولستوي، بما يؤدي لأن يوافق نثره ساعة القارئ البيولوجية، كما أشار لذلك كاتب روسي آخر. وطبعا القائمة، تضم أنطون تشيخوف الذي كتب عن هواجيس آلام وأحلام سكان الأرياف والمدن الصغيرة كما لم يفعل كاتب آخر. وهناك تورغنيف وغوغول أيضاً وهم من أعمدة أدب القرن 19. ورغم الظروف السياسية القاتمة التي مرت بها روسيا طوال القرن العشرين، فإن الأدب الروسي لم يتوقف عن إنتاج الروائع الخالدة مثل: ملحمة الحرب والثورة والدكتاتورية والإنسان "دكتور شيفاكو"، أو رواية "السيد ومارغريتا" التي يعتبرها الكثيرون البداية الحقيقية لأدب الواقعية السحرية، هذا التقليد الأدبي الذي سينتقل لاحقاً للعيش والازدهار إلى قارة أخرى. إذن ما يجذب القارئ العربي لتلك الكتب الروسية السميكة، ليس مجرد العناوين الروائية الشهيرة التي ستجلب له برستيجاً خاصاً إن قرأها، بل هي تشابهات ومتوافقات تستجيب لهمومه وأشواقه وتجاربه الخاصة والجمعية. ابتسام المعطاني عند الحديث عن الرواية الروسية فإن أول ما يتبادر لذهني أسماء الكتّاب من العصر الذهبي للأدب الروسي كتولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف وتورغنييف. ثم تبدأ الأسماء بقائمتي بالانحسار تدريجياً مع الدخول للقرن العشرين وعهد ما بعد الثورة لتتجه للشعر والشعراء مثل آنا اخماتوفا ومارينا تسفيتايفا. فترة الشيوعية أقصت الكثير من الكتّاب وصادرت الكتب ووُسمت بالركود. لكن ذلك لم يمنع من ظهور الأعمال الكوميدية الاجتماعية المميزة مثل رواية الكراسي الإثنا عشر للكاتبين إلف وبتروف، ورواية ميخائيل بولغاكوف الهجائية "قلب كلب". أما الأدب الروسي المعاصر، فأظن أنه من النادر في الخليج أن تجد قراءً متعمقين فيه. فعلى الرغم من تنوعه - كما تؤكد دور النشر الروسية -إلا أنه يواجه تحديًا في الانتشار عالميًا وفي تقديم الأسماء الجديدة من الكتاب والروائيين. فهو يوصف بأنه "ذو تمركز روسي" يصعب على القراء الأجانب فهمه. بالإضافة إلى بطء حركة الترجمة للإنجليزية الأمر الذي أسهم في بقائه غير معروف لدينا. أعود للروايات الكلاسيكية من القرن التاسع عشر. هذه القطع الأدبية الفاخرة تعج بالحياة وتزداد بهاءً بعشاقها المخلصين من النقاد والقراء. من الصعب على قارئ الأدب ألا يستحضر رواية روسية لم تؤثر فيه وتبقيه لساعات وربما أياماً تحت سحرها. روايات وصلت إلى "ذروة الكمال الإبداعي" كما وصف نابوكوف (آنا كارنينا). روايات تصور الألم، والحب، والجنون، والعدمية، وعمق العلاقات الإنسانية. تلك الروايات الكبيرة في حجمها والتي يفوق بعضها الألف صفحة مثل الحرب والسلام والاخوة كارامازوف لاتزال رائجة في هذا الزمن السريع. وربما يكون السبب أن أجهزة القراءة اللوحية مثل كندل ونوك وايباد قد أخفت الجزء المرعب (أي الحجم الضخم والوزن الثقيل) لهذه الكتب فأصبحت رفيقة لنا في حلنا وترحالنا. أخيرا، ربما لاتعكس الرواية الروسية قيمنا الاجتماعية والأخلاقية ولكن القارىء يجد روحه منعكسة في أبطال الروايات ويخرج منها بخبرات غنية. هذه الأعمال الأدبية تشترك في أنها كُتبت لأغراض جمالية، وأخلاقية وثورية ولهذا نجحت في الوصول والتمييز عالميًا. محمد حسن المرزوقي: يعود الأمر في المقام الأول إلى تراجع نشاط دور النشر، واختفاء بعضها، التي أخذت على عاتقها ترجمة عيون الأدب الروسي خلال الحقبة السوفييتية بعد تفكك الاتحاد السوفييتي في التسعينيات. من المعروف أن الحركة الأدبية في روسيا بدأت، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، تأخذ أشكالاً ومسارات مختلفة بعد أن تخلصت من بقايا وقيود الأدب الاشتراكي الذي كبل طوال عقود العملية الإبداعية بقيود سياسية وأيديولوجية، ومع هذا الغياب لدور النشر العربية التي كانت مهتمة بترجمة الأعمال الروسية من الطبيعي ألا يصل إلى القارئ العربى إلا عدد محدود من الأعمال الأدبية المعاصرة. أضف إلى ذلك رحيل العديد من الرموز الأدبية في العالم العربي التي تأثرت بالأدب الروسي ومدارسه وساهمت ثقافيًا في ترسيخه في الفضاء الأدبي العربي، إذ قلما نجد بين الأدباء المعاصرين مثل يوسف إدريس الذي تأثر بقصص تشيخوف أو ميخائيل نعيمة الذي تأثر بإيفان تورجينيف وغيرهم. لذلك، ولعدم وجود الجديد، نجد بأن تراث آباء الأدب الروسي الكلاسيكي مثل دوستويفسكي وتولستوي وبوشكين وآنا أخماتوفا.. إلخ لا يزال حاضرًا بقوة في المكتبات العربية. من الناحية الإبداعية، لا يوجد على الأدب الجيد والجاد بطاقات تحدد صلاحية استهلاكه، فهو عابر للزمان والمكان. لذلك من باب أولى أن يكون الأدب الروسي من بين كافة آداب العالم الأكثر مقاومة للنسيان والتجاهل لأنه أولاً أدب عالمي، لم يترك أديبًا إلا وأثر فيه بشكل أو بآخر، ولم يترك مدرسة أدبية إلا ساهم في زرع بذورها الأولى وتشكيل ملامحها بدءًا من الرواية النفسانية التي يعد دوستويفسكي رائدًا فيها، مرورًا بأدب الحروب والسجون، ووصولاً إلى الرواية الواقعية السحرية التي يعد ميخائيل بولغاكوف أحد رموزها إلى درجة أن النقاد اتهموا ماركيز بأنه استوحى روايته "مائة عام من العزلة" منها وهو ما نفاه ماركيز بشدة تدعو للشك والريبة. هذا بالنسبة للكتاب، فأما بالنسبة للقارئ، والقارئ الخليجي على وجه الخصوص، فيجب ألا ننسى أن الأدب الروسي هو أدب إنسانى، وهذه الميزة بالتحديد سمحت له باختراق جميع الحواجز الجغرافية والوصول إلى كل إنسان في العالم مهما كانت ثقافته، أو دينه، أو جنسه. بمعنى أن القارئ مهما اختلف مع الكثير من الأفكار التي يعالجها الأدباء الروس، إلا أنه لا بد أن يجد تلك الفكرة الإنسانية التي يتفاعل معها. إيمان الباتع السبب برأيي هو أن الأدب الروسي انعطف إلى مسار آخر مختلف تماما عن الأدب الإنجليزي الذي عاصره والذي اتخذ طابع رومانسي. كان الأدب الانجليزي يتحدث عن الجمال عن الطبيعة عن مضامين وأوجه السعادة.. الخير.. والحياة الرغيدة في حياة النبلاء عن قصص العشق الثلاثية عن الحفلات الراقصة والموسيقى الكلاسيكية, بينما توجه الأدب الروسي لوجهة أخرى وعكس المسار للواقع، للشارع، وللشعوب. ليس هذا فحسب، بل نجد ميلا إلى الذاتية وللعدمية وللفردانية وهذه ناحية سيكولوجية لا توجد في الكثير من الآداب الأخرى في ذلك العصر بالتحديد. تجلت الفلسفة القدرية والسأم الوجودي في الأدب الروسي.. ظهر العدم جلياً للسطح وتفشى الإلحاد بعدما ضرب الواقع المتردي ضربته الأخيرة. فكسر الرواة الروس التابوهات الدينية والاجتماعية لمواجهة هذا الواقع بسلاح آخر غير مخدر الإيمان والتسليم بحياة أخروية أفضل ولكن هذا لم يكن ليستفز القراء العرب أو الخليجيين لأن المقدمات واحدة. فالسأم تسيد المشهد الواقعي الحالي ولم يعد بالإمكان تخدير الشباب. فلم يعودوا مجرد قراء الآن بل تبنوا قيم اليسار وأمنوا بمبادئ الاشتراكية وحملوا افكاراً ثورية راديكالية. نمر في عصر سياسي حرج. فقد تضخم الوعي القومي والشعور الوطني العام إلى جانب كبير من الحس بالفشل بالإحباط والفراغ، وعدم الجدوى السياسية. يبحث الشباب المتحمس عن طريقة لقلب الطاولة وتغيير شروط اللعبة السياسية. أما كون الروايات الروسية من الحجم الكبير والذي عادة ما يقود القراء للملل فالقصة مختلفة هنا بعض الشيء. لأن المحتوى الروسي يخلو من التفاصيل اليومية والدنيوية كوصف الأثاث, الطعام والشراب وحتى الملابس، ليس كلياً ولكنه على الأقل يتحاشى الإغراق بالتفاصيل كما نجد عند هاروكي موراكامي مثلا. طارق جمال حريري أعتقد - من وجهة نظري - أن الرواية الروسية في عصرها الذهبي وإن روادها مثل بوشكين وجوجول ودوستويفسكي وتولستوي وتشيخوف عالجوا قضايا إنسانية روحية عميقة من خلال الشخصيات والمواضيع التي طرحت فيها وهذه القضايا تتسم بوجود الإنسان منذ الأزل الى الأبد ولا تحتكر على حقبة زمنية محددة مستذكراً مقولة العالم العظيم ألبرت آينشتاين، صاحب النظرية النسبية، الذي شغلت تفكيره الأطروحات الأخلاقية في الروايات الروسية وبالتاكيد لم يكن لها علاقة بالفيزياء وسرعة الضوء والذرة عندما قال "ثلاث مثلت لي الخلود: النجوم والأخوة كارمازوف ودون كيشوت." وهذه سمة مميزة في الأدب الروسي حيث نرى انه خالد طالما بقيت الأسئلة الوجودية حائرة أمام الإنسان، وأعتقد أن سر اهتمام القارئ الخليجي بالأدب الروسي في عصره الذهبي بسبب عدة عوامل منها التغيرات الكثيرة في المجتمعات الخليجية بعد الانفتاح الفكري والتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي تشبه تلك التي مرت بها روسيا في القرن التاسع عشر أثر انفتاحها على الحضارة الأوروبية الغربية التنويرية حيث يركن المثقف الخليجي الى دور الإنسان في هذه المرحلة من التطور الحضاري والاقتصادي التي تمر به المنطقة الخليجية وخوفه على مورثاته الدينية والفكرية في هذه المرحلة و نسبية المعايير الأخلاقية التي سيستند اليها هذا التطور الحضاري بحثاً عن إجابات طالما شغلت تفكير المثقف الروسي في تلك الحقبة. محمد المرزوقي:الأدب الروسي قريب من الأدب العربي طارق جمال حريري: المثقف الخليجي يبحث في الروايات الروسية